السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الائتمان
الائتمان أو التسليف Credit في الاقتصاد الوضعي هو التنازل عن حق استعمال مبلغ من المال إلى شخص آخر على نحو مؤقت مقابل عائد متفق عليه واجب الرد مع أصل المال في موعد لاحق لشخص، أو هو أيضاً بيع سلعة أو خدمة من شخص آخر على أن يقوم بتسديد قيمتها في وقت لاحق وفي هذه الحالة يطلق على الائتمان تسمية التسهيلات الائتمانية.
ويتعلق الائتمان بوجود طرفين بينهما تعامل مشترك قائم على عقد يربط هذا التعامل مدة ما، والائتمان يتعلق بوجه عام بقروض مالية إذ تمنح جهة دائنة جهة مدينة مهلة زمنية تلتزم الجهة المدينة دفع قيمة الدين بانتهائها، كما يمكن أن يتعلق أيضاً بتزويد الجهة المدينة بمواد سلعية أو مستلزمات إنتاجية أو خدمات معينة أو سندات مالية مقابل وعد بتسديد قيمتها في مدة لاحقة.
فالاتفاق على تقديم سلع أو خدمات مقابل وعد بدفع قيمتها في المستقبل ينطوي على مدة زمنية تفصل بين وقت إنتاج تلك السلع ووقت استهلاكها النهائي، لذلك يمكن النظر إلى عملية الائتمان على أنها الحركة التي تصل بين هذين الزمنين. على أنه ليس كل حركة من هذا النوع ائتماناً، فقد تكون إعارة أو إعانة كما لو كان الطرف المتعهد ملزماً بإعادة القطع النقدية التي انتقلت إليه ذاتها (بأرقامها التسلسلية)، أو بإعادة السلع والبضائع عينها من دون تصرف بها.
إن العملية الواحدة لشراء سلعة ما توجب وجود طرفين أحدهما بائع والآخر مشتر، فهي إذاً عملية بيع أو عملية شراء وذلك تبعاً للطرف الذي يراد الكلام عليه، والعلاقة بين الدائن والمدين هي عملية ائتمان واحدة بين مقترض ومقرض، ولذلك فإن حجم الحساب الدائن هو دائماً مساوٍ لحجم الحساب المدين في العملية الواحدة.
وفي جميع حالات الائتمان ثمة مجازفة يقدم عليها المقرض حين يوافق على الإقراض، وهذه المجازفة تعود لأسباب عديدة منها احتمال مماطلة المقترض وقت السداد أو تلكؤه في الدفع أو استنكافه أو إعساره أو إفلاسه أو وفاته. وجميع هذه الحالات الممكنة قد تكبد المقرض جهوداً أو نفقات إضافية يبذلها لاسترداد أمواله. يضاف إلى ذلك أن المقرض قد لا يتمكن إطلاقاً من استرداد المبلغ كله أو بعضه، أو قد لا يسترد المبلغ في الموعد المحدد، الأمر الذي قد يؤخر له مصالح أخرى. وكذلك ثمة احتمال حدوث أمور طارئة وأوضاع غير عادية خارجة عن إرادة المقترض، كالحروب والاضطرابات السياسية والطوارئ الطبيعية والتبدلات الاقتصادية، كانخفاضالقيمة الفعلية للحساب الدائن مِن تضخم نقدي أو تبدل مفاجئ في أسعار صرف العملات الأجنبية أو غير ذلك، كل هذا يثير في نفس المقرض الشعور بأنه يقدم على مجازفة تستوجب التعويض. وقد تمثل هذا التعويض تاريخياً بتحميل الحساب المدين فائدة مئوية معينة يتفق عليها مقدماً بين الطرفين المعنيين.
وفي المؤلفات الاقتصادية نظريات متعددة عن طبيعة الفائدة. فبعض الاقتصاديين يراها بمنزلة عنصر تأمين أو تعويض عن المخاطر المحتملة، ويذهب آخرون إلى أنها كلفة جاهزية رأس المال، ويراها فريق ثالث مردود رأس المال المقرض. وتعدها مدرسة اقتصادية رابعة تعويضاً عن تأخير استعمال المال أو التمتع به، وترى أن المقرض يحرم نفسه طول مدة القرض من استثمار المبلغ أو التمتع به فتأتي الفائدة تعويضاً له عن ذلك، لأن المقترض يستعجل المنفعة المادية باقتراضه ويقوم باستثمار القرض والاستفادة منه أو التمتع به. إن النظريات السابقة كلها مجمعة على أن للائتمان كلفة تتمثل بالفائدة التي يدفعها المدين للدائن.
وفي الائتمان ما يسمى «وسيلة» الائتمان، وهي الوساطة التي تتم بها عملية الائتمان. ومن هذه الوسائل: الالتزامات الأدبية الشفهية، والحسابات المكشوفة، وكتب الاعتماد، والسندات، والاعتمادات والتسليف بأشكالها المختلفة، وما بات يعرف ببطاقات الشراء أو بطاقات الائتمان التي أصبح استعمالها رائجاً في المجتمعات الرأسمالية.
المنظور التاريخي
تجمع المراجع كلها على أن للائتمان أصولاً تاريخية قديمة جداً قد تعود إلى بدايات التنظيم الحضاري، وتتعزز هذه المقولة باطراد لتراكم شواهد الأبحاث الأنتروبولوجية المستمرة. فثمة دلائل على أن المجتمعات الغابرة عرفت الائتمان بصور بدائية منذ أقدم العصور، حتى حين كانت المبادلات التجارية تتم عن طريق المقايضة، أي قبل اللجوء إلى استعمال النقد وحدة تبادل. إلا أنه مع شيوع استعمال النقود في أزمنة لاحقة، بدأت عمليات الائتمان تأخذ صوراً أكثر تطوراً، ولاسيما مع ازدياد النشاط التجاري وتطوره وانتشار التجارة الخارجية فيما بين المجتمعات المختلفة.
وإذا كان استقراء تاريخ الإنسان الغابر يعتمد غالباً على منهج ربط الأمور منطقياً واللجوء إلى احتمالات ترجيح حدوث واقعة ما أو تطور مسألة معينة أو عدم ترجيحه، لضآلة القرائن وندرة الشواهد، فإن التاريخ المدون للحضارات اللاحقة قد أزال الكثير من اللبس والغموض عن معظم الظواهر الحضارية، ومنها المبادلات التجارية وطرق تمويلها.
ومع أن الكثير من الباحثين الغربيين اعتادوا الرجوع إلى الحضارتين اليونانية والرومانية عند التعرض لجذور التاريخ المدون للمراحل اللاحقة، وجنحوا إلى التوقف عندهما، فإنه لحري بنا سبر التطور الحضاري الأقدم الذي شهدته مناطق أخرى، ولاسيما سورية ومصر وبلاد ما بين النهرين. كذلك لابد من الإشارة إلى التطور التجاري الذي كان قائماً في شرقي الجزيرة العربية وجنوبيها، وفي الشرق الأقصى ولا سيما الصين. وإن الحفريات والأبحاث الأثرية المستمرة وما تكشفه من قرائن جديدة يزيد باطراد الأدلة التي تؤكد وجود تجارة منظمة ووسائل دفع متطورة في تلك المناطق، قياساً على معطيات تلك الأزمنة.
وهناك شواهد كثيرة عن التطور التجاري الذي كان قائماً قبل ازدهار حضارة اليونان. وثمة دلائل على أن البلاد السورية كانت تؤلف نقطة التقاطع الرئيسية لطرق التجارة العالمية آنذاك. ومن الثابت أن النقد والائتمان هما وليدا النشاط التجاري. ويكتفى هنا بالإشارة إلى أن قسماً كبيراً من شرائع حمورابي كان يتعلق، بوجه أو بآخر، بأمور الإنتاج والملكية والتجارة.
كذلك فقد تطرقت تلك الشرائع إلى مسألة الائتمان وأفردت لها بنوداً خاصة وفرضت عقوبات على من لا يلتزم الوفاء بديونه، مما يثبت أن أمور الائتمان كانت على قدر من التنظيم في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، أو ربما قبل ذلك، فقد مارس الفينيقيون التجارة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.
ولما كان الباحثون الغربيون هم الذين كتبوا معظم التاريخ الاقتصادي، ولما كانت الثورة الصناعية التي كانت بمنزلة المنعطف الرئيسي للعلاقات الاقتصادية وللفكر الاقتصادي الحديث قد انطلقت من أوربة، غالى أكثر هؤلاء الباحثين حين توقفوا عند الحضارة اليونانية ولم يلتفتوا إلى التطور قبلها.
واضح أن للعلاقات الائتمانية تاريخاً قديماً جداً، إلا أن التوسع التجاري في العصور الوسطى قد انعكس على الائتمان شكلاً ونظاماً وأعرافاً. وعلى محاربة الكنيسة له، فقد نشأت في أوربة طبقة من تجار المال أو المرابين، وأكثرهم من اليهود، ونمت بنموّ الكشوفات الجغرافية وتدفق المعادن الثمينة إلى القارة الأوربية. وقد تجاوز المتعاملون بالربا القوانين الكنسية أو تحايلوا عليها وامتهنوا التعامل المالي. وقد اشتهر من هؤلاء عدد كبير وخاصة في إيطالية. وكان تدفق الذهب والفضة إلى أوربة قد نشّط مهنة الصياغة، وفتح أمام الصاغة المجال واسعاً في المعاملات المالية. فقد انصرف أكثرهم إلى ممارسة الصيرفة والمراباة، ثم تطورت أعمالهم فأصبحوا يتعاملون بالسفاتج وبالسندات، ويصدرون الكفالات ويجرون معاملات الرهن، كما قام بعضهم بتمويل التجارة الخارجية وأساطيلها، ومن نشاطات هذه الطبقة انبثقت المصارف فيما بعد. فشهدت أوربة قيام مصارف الإيداع في القرن السادس عشر الميلادي، وأصبح تداول السندات وحسمها شائعاً في القرن السابع عشر. وبحلول الثورة الصناعية انفتحت أمام المتمولين آفاق كبيرة لزيادة نشاطاتهم وتوسيعها، فقد تطلبت الاختراعات والتبدلات التقنية أموالاً لم تكن بحوزة الصناعيين دائماً، وتطلبت إقامة المصانع الجديدة بتجهيزات حديثة ووسائل عمل غير تقليدية رؤوس أموال تجاوزت بحجومها قدرات الفرد حتى الجماعة أحياناً، الأمر الذي دفع طبقة الصناعيين الجدد إلى الاقتراض من المصارف مما ساعد في تطور العمل المصرفي وفي اتساع الأسواق المالية لتواجه المتطلبات الجديدة. وحلت المؤسسات المصرفية المختلفة، ولاسيما المصارف التجارية، محل طبقة المرابين. ثم تسارع التطور التقني والاقتصادي فانعكس تأثيرهما على آلية عمل المؤسسات المالية والاقتصادية، وازداد دور المصارف تطوراً. وكانت القفزة الكبيرة بمجيء التقنيات الإلكترونية، فانفتحت الأسواق المالية بعضها على بعض بوساطة تقنية الاتصالات الفورية، وأصبح الائتمان كما يمارس اليوم. فمستجدات التقنية المعاصرة، كأجهزة الاتصال والمواصلات أو مبتكرات التعامل السريع مع الأرقام والمعلومات، باتت تسمح للفرد أن يتعامل، إذا أراد، مع أسواق العالم كلها بسرعة فائقة متخطياً الحواجز والحدود المحلية.
الائتمان عند العرب
من الثابت أن العرب عرفوا الائتمان ومارسوه في الجاهلية في مختلف أصقاع الجزيرة العربية وكانت المعاملات الربوية شائعة بين اليهود، كما كانت شائعة بين أثرياء قريش وسواها، فمن الثابت أن الرسولe في خطبته الشهيرة قال: «وأن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظْلمون قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله..». وإضافة إلى طرق القوافل البرية المعروفة التي وصلت ما بين الجزيرة العربية وبلاد الروم والفرس، كانت هناك طرق تجارة بحرية تصل الجزيرة العربية بإفريقية وبالشرق الأقصى. وقد دلت الحفريات الأثرية على وجود مواقع في الخليج العربي، وخاصة في جنوبيه، كانت مراكز للتجارة البحرية مع بلاد الهند والصين. ولو لم تكن التجارة ناشطة في الجزيرة العربية والائتمان قائماً والربا منتشراً، ما أفرد الإسلام نصوصاً خاصة لتحريم الربا.
وكانت كتب المسيحية واليهودية قبل الإسلام قد تعرضت لمسألة الائتمان وللفائدة والربا، فقد ورد في العهد القديم ما يمنع اليهودي من قبض أي فائدة حين يقرض أحد أبناء دينه، أما حين يتعامل مع بقية الناس فلا حرج عليه في ذلك. أما المسيحية قد نهت عن التعامل بالربا نهياً تاماً، بيد أن ثمة تفريقاً بين الفائدة المتدنية اليسيرة التي تفرضها الضرورات والربا الفاحش الذي يلحق ظلماً بالمحتاج. وقد شغل هذا التفريق بين الفائدة Interest والربا Usury الكثير من اللاهوتيين منذ ظهور الديانة المسيحية حتى اليوم.
ومن أشهر من تصدى لهذا الموضوع القديسون باسيل St.Basile ودونيس St.Denysse وأغسطين St.Augustin في القرن الرابع الميلادي، وتوما الإكويني St.Aquinousفي القرن الثالث عشر الميلادي. كما تصدى له كالفن Calvin في القرن السادس عشر.
حرم الإسلام الربا تحريماً تاماً وردَّ على من ساوى بينه وبين البيع في الآية الشريفة: ).. قَالُوا إنّما البَيْعُ مِثلُ الرِّبَا وأحَلَّ الُله البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا( (سورة البقرة 274). وفي القرآن الكريم آيات أخرى، تناولت مسألة تحريم الربا.
وفي السنة الشريفة أحاديث نبوية كثيرة ذمَّت الربا، منها ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «لعن رسول اللهe آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء» ومثله عن علي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. أخرجها أحمد ومسلم وأصحاب السنن. ومن الجدير بالذكر أن الربا المحرم في الإسلام غير محصور فقط بالزيادة على أصل المال السائل من غير عمل، أو نتيجة للمعاملات النقدية، بل إن الربا أوسع من ذلك بكثير، فالتعامل الربوي قد يشمل أيضاً بعض أنماط التعامل بالأرزاق والسلع الضرورية للمعيشة والأموال الربوية (وهي المطعونات أو التي تقبل الاقتيات والادخار أو كل قليل وموزون بحسب اختلاف الفقهاء) فقد ورد في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قول رسول اللهe «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء».
غير أن عمليات الائتمان التي تجري اليوم في معظم البلدان العربية والإسلامية، إلا حالات معينة، تتم على نحو مشابه لما يجري في العالم الرأسمالي. في وقت تنشط فيه المحاولات المخلصة للتوفيق بين التراث والشرع ومتطلبات العصر.
وسائل الائتمان
هي الأدوات التي تجري بوساطتها عمليات الائتمان. وتبين التفاصيل المتعلقة بعقود الائتمان وشروطه، فهي توضح اسم المدين وقيمة الدين وشروط الدفع، وتجدد التاريخ والمكان والفائدة، ويحتفظ بها الدائن لحين استرجاع ماله، ويحق له غالباً التخلي للآخر عن الحقوق المتعلقة بها. وينظم التعامل بهذه «الأدوات» الأعراف التجارية المعمول بها والعادات الاجتماعية الغالبة والأنظمة والقوانين النافذة. وإن الوظيفة الأساسية لهذه الأدوات هي توفير السبل النظامية التي تتم عن طريقها عملية الائتمان، ومن ثم خدمة المصلحة المتقابلة أو المتعاكسة للطرفين المتعاقدين. ولأن هذه الأدوات هي وسيلة لتحويل حقوق التحكم بالمال وانتقالها، فإنها تعد ملحقاً متمماً للنقد. ومن هذه الوسائل:
1ـ الالتزام الأدبي: وأقدم وسيلة من وسائل الائتمان، هي الالتزام الأدبيّ الشفهي. إلا أن هذه الطريقة لها محاذيرها حتى حين تكون الثقة تامة بين الطرفين. وإذا سُجل عقد المشافهة في السجلات الحسابية لأحد الطرفين اتخذ صورة الحساب المكشوف بمعنى الحساب الجاري.
2ـ الحسابات الجارية: وهي طريقة التعامل الرئيسية في المعاملات التجارية في جميع أنحاء العالم، فالحساب الجاري يتعلق بعقد بين طرفين يقوم بموجبه كل طرف بتسجيل كل ما يتسلمه من أموال من الطرف الآخر لمصلحة ذلك الطرف ديناً على نفسه، ولا يكون لأي طرف من الطرفين الحق بمطالبة الطرف الآخر... بتسديد كل دفعة على حدة، بل يجري الحساب بينهما على الرصيد النهائي عند تصفية الحساب في نهاية المدة المتفق عليها أصلاً، إذ يقوم حينذاك الطرف الذي يظهر أن مجمل حسابه مدين بتسديد الاستحقاق للطرف الآخر.
ويمكن أن يشمل اتفاق الحساب الجاري إلزام الجهة المدينة دفع فائدة على الحساب المدين في حالات معينة، كما يمكن إلزامها بدفع مصاريف إضافية محددة.
وتقوم المصارف إضافة إلى القطاعات التجارية بفتح حسابات جارية للأشخاص الطبيعيين والمعنويين وفق نظام عملها. فيصبح للشخص صاحب العلاقة الحق بالسحب والإيداع في الحساب الجاري، في حين يقوم المصرف بمسك القيود الدائنة والمدينة اللازمة للحساب، وبإجراء تصفية دورية له، يضاف بها إلى رصيده الفائدة المصرفية المعمول بها.
3ـ الاعتمادات: يتعلق الاعتماد بعقد بين طرفين، أولهما فاتح الاعتماد، والثاني معتمد له، يقوم الأول بوضع مبلغ محدد لمدة محددة تحت تصرف الآخر الذي يقوم بسحبه بحسب حاجته أو على دفعات متفق على حجومها ومواعيد سحبها في متن العقد المذكور، وغالباً ما يقترن الاعتماد بضمانات مادية أو معنوية يوفرها المعتمد له، كما يلتزم عادة دفع المصاريف المتعلقة بالاعتماد والفائدة المصرفية المستحقة على المبلغ. ويكون لفاتح الاعتماد عادة الحق بإغلاق الاعتماد إذا أخل الطرف الثاني بأي شرط من الشروط المتفق عليها سابقاً. وكما تمارس المصارف عمليات للحسابات الجارية، تمارس أيضاً عمليات فتح الاعتمادات.
ثم إن المصارف التي تتلقى على سبيل الوديعة مبلغاً من المال من شخص طبيعي أو معنوي وتوافق على فتح حساب ودائع أموال له بمقتضى شروط عملها يصبح لها الحق بالتصرف بهذا المال، مادامت على استعداد لدفع قيمة الشيكات المصدرة من قبل صاحب الحساب في حدود وجود مقابل الوفاء اللازم في رصيد حسابه. كذلك تتصرف المصارف بالأموال المودعة في حسابات الادخار، والودائع المجمدة لأجل، إبان مدة التجميد وتعيدها إلى أصحابها عند انتهاء التجميد مضافاً إليها فوائد الادخار.
والمصارف التي تقوم بتدوير المال الموجود لديها، سواء أكان مصدره ودائع أم ادخارات أم رأسمال عاملاً أم أرباحاً أم قروضاً، تجري ذلك بتسليفه للفعاليات الاقتصادية المختلفة، وذلك وفق اختصاص عملها.
4ـ السندات: وللسندات أنواع متعددة إلا أنها بوجه عام سندات تجارية أو سندات عامة. وأنواع السندات التجارية كثيرة فهناك سندات السحب أو السفتجة والسندات لأمر، وهي متنوعة ويصدرها القطاع التجاري والمؤسسات المالية والمصارف. أمّا السندات العامة: فهي التي تصدرها الدولة، مثل السندات الصادرة عن الهيئات المحلية والمؤسسات الرسمية وسندات الحكومة لتمويل مشروعات التنمية وسندات الخزانة. ثم إن السندات تختلف أيضاً بحسب آمادها الزمنية، فهناك السندات ذات الآماد القصيرة، أي بضعة أشهر إلى السنة، والسندات ذات الآماد المتوسطة، من خمس سنوات إلى عشر، والسندات ذات الآماد الطويلة، أكثر من عشر سنوات. كذلك عرفت الأسواق المالية سندات عامة مفتوحة الأجل، لا تُستهلَك أبداً بل يبقى حاملها مستفيداً من دفعات سنوية دائمة.
والسندات عادة قابلة للتداول، ويمكن لصاحب السند أن يتخلى عنه لجهة ثالثة، على أن القيمة السوقية للسند عند البيع قد تكون أكثر أو أقل من قيمته الاسمية، وذلك كي يتساوى ريع السند، أي الفائدة الاسمية التي يحملها، مع الفائدة المصرفية المعمول بها في تاريخ التخلي. إلا أنه عند احتساب القيمة السوقية للسند تحسم الفوائد التي كانت قد ترتبت على أصل المبلغ في المدة المنقضية. وبوجه عام، فإن القيمة السوقية للسندات ترتفع عادة عند انخفاض الفائدة المصرفية وتنخفض عند ارتفاعها وذلك يعتمد على المدة الزمنية للسند. وعند إجراء عملية الحسم تنتقل الحقوق المالية المترتبة على السند إلى الجهة الثالثة الجديدة التي يمكنها أن تتخلى عنه تباعاً إلى طرف آخر.
5ـ بطاقات الائتمان: وهي وسيلة جديدة نسبياً تستعمل من قبل حاملها بدلاً من النقود عند الدفع، وقد أصبحت رائجة عالمياً، ولاسيما في الغرب، تصدرها المؤسسات المالية والمخازن الاستهلاكية الكبرى وشركات السفر والمؤسسات الخدمية ومرافق أخرى لزبائنها، وتكون مرتبطة بحساب جارٍ تجري تصفيته دورياً. وهذه الوسيلة مفيدة للجهة التي تصدرها، لأنها تحصر تعامل الزبون بها من دون منافسيها من جهة، وتجني من ورائها أجوراً وعمولات معينة وأحياناً فوائد مالية من جهة أخرى، وهي في الوقت نفسه ذات منافع متعددة للشخص الذي يحملها لما تحققه له من تسهيلات وأمان.
الدور الاقتصادي للائتمان
مع أن للائتمان أثراً مهماً في الحياة الاقتصادية لأي مجتمع من المجتمعات، فإن أهميته تختلف بين مجتمع وآخر تبعاً لاختلاف النظام الاقتصادي المطبق. وعلى العموم، فإن الأهمية الاقتصادية للائتمان في المجتمعات الرأسمالية هي أكبر بكثير مما هي عليه الحال في المجتمعات الاشتراكية.
1ـ الائتمان في البلدان الاشتراكية: كان الائتمان في البلدان الاشتراكية كغيره من البلدان، حيث تملك الدولة وسائل الإنتاج ويُعتمد على التخطيط الاقتصادي لتحقيق التوازن العام بين العرض الكلي والطلب الكلي للسلع والخدمات والمستلزمات المالية المطلوبة، ويعمل القطاع المصرفي شأنه شأن بقية القطاعات الاقتصادية وفق خطط سنوية مقررة ومترابطة مع الخطة الاقتصادية العامة للدولة، لذلك كان هناك خطة للائتمان، تناط بالمصارف المأذون لها تنفيذها، وشغل الائتمان القصير الأجل فيها ما يقارب 85% من مجمل الائتمان الداخلي. إلا أن التعاونيات والمؤسسات كانت المسؤولة عن تسلم المحاصيل والمنتجات، في حين كانت مؤسسات التجارة الخارجية مسؤولة عن التصدير، ومثيلاتها من المؤسسات تقوم أحياناً بإيجاد تسهيلات ائتمانية للمنتجين، كما قامت غالباً بدور الوسيط بين المصارف المأذون لها ومنشآت القطاع العام لتسهيل عمليات التمويل الموسمي والتمويل الضروري لمواجهة متطلبات الحالات الطارئة غير الملحوظ لها تمويل في الخطط. أما التسهيلات الائتمانية الأطول أمداً (3- 6 سنوات)، فإن المصارف كانت لا تمنحها إلا لأسباب خاصة مثل الإنفاق على التطوير التقني والاختراعات والابتكارات الفنية غير المشمولة في الخطة العامة للدولة. كذلك قامت المصارف المأذون لها والصناديق المشتركة ومؤسسات الادخار بتسليف الأفراد في نطاق ضيّق لمواجهة متطلبات استهلاكية، ولاسيما تمويل السلع المعمرة، ومتطلبات السكن وبعض النشاطات الحرفية ذات الطابع الخاص. وفيما يتعلق بعمليات التجارة الخارجية، ومع أن الدول الاشتراكية جنحت دائماً نحو المقايضات السلعية، فإن طبيعة التعامل في الأسواق العالمية والسهولة النسبية لتمويل التبادل السلعي بالطرق المباشرة، إضافة إلى خصائص آلية عمل نظام النقد الدولي، جعل تلك الدول تعتمد على الائتمان في تمويل حركة تجارتها الخارجية بدرجة أكبر مما تعتمد عليه في الحياة الاقتصادية داخل بلادها. وكان هناك مصارف متخصصة في المعاملات المالية مع الخارج تُموَّل بوساطتها حركة تلك المبادلات. ومع سقوط الأنظمة الاشتراكية تباعاً تبدل نظام الائتمان ليقترب من ذلك المتبع في النظام الرأسمالي أو ليطابقه.
2ـ الائتمان في النظام الرأسمالي: أما في النظام الرأسمالي، فإن عملية الائتمان تتم بالتراضي بين طرفين لتلبي حاجتيهما المختلفتين، أحدهما لديه فائض يريد إقراضه مقابل الحصول على ربح فوق رأسماله، والآخر يريد أن يقترض في بداية مدة الادخار لاستعجال المنفعة باستثمار المال أو التمتع به فوراً بدل الانتظار إلى نهاية مدة الادخار، إلا أن النفع الاقتصادي العام الناجم عن عملية الائتمان الواحدة يكون عادة أوسع بكثير من النفع المباشر الضيق الذي يؤول إلى الطرفين المتعاقدين. فإذا كان المقترض قد لجأ إلى الائتمان لسد حاجة استهلاكية، كالغذاء أو السيارة مثلاً، فإن حصوله السريع على المال وإنفاقه له ينطويان على قلب رأس المال من حالة ادخار إلى حالة استثمار تولد زيادة في الطلب السلعي يقابل بزيادة في العرض من قبل المنتج، وتنعكس هذه الحركة إيجابياً مهما كانت صغيرة وجزئية على عملية الإنتاج الكلية وعلى الدخل القومي للمجتمع. وإذا كان المقترض من أصحاب الفعاليات الإنتاجية، وكان اقتراضه من أجل القيام باستثمارات جديدة، فإن عملية الائتمان ذاتها تسهل له ذلك وتولد لدى استثمارها زيادة في الدخل القومي بنسبة تفوق نسبة الزيادة المباشرة في حجم الاستثمار العام، كما هو معروف اقتصادياً.
والحياة الاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية لا تستقيم من دون اللجوء إلى الائتمان، ففي الولايات المتحدة، تبلغ المبيعات التي تتم بتسهيلات ائتمانية تحققها القطاعات المنتجة أو المصارف للمشترين ما يقارب 90% من مجمل السلع الاستهلاكية. وتصل التسهيلات التي يقدمها تجار الجملة للموزعين نحو 30% من مجمل المبيعات. إلا أن تبدلات حجم كتلة الائتمان في المجتمعات الرأسمالية، كثيراً ما أدت إلى زيادة حدة التقلبات في الدورات الاقتصادية، ومن ثم إلى حدوث أزمات اقتصادية ومالية. فقد أدت زيادة حركة الائتمان في أوقات معينة إلى زيادات مفرطة في الطلب على السلع والخدمات وأوجدت أوضاعاً تضخمية، وفي أوقات أخرى أدى النقص في حركة الائتمان إلى نقص في الطلب الكلي وإلى انكماش اقتصادي، وحالة من سوء استغلال الموارد المتاحة، وذلك لأن سرعة تحريك المال بوساطة الائتمان في الأوقات التي يكون فيها مستوى الطلب الكلي مرتفعاً أصلاً يزيد في الإفراط في الطلب على السلع والخدمات، والعكس بالعكس. بيد أن ذلك كله لا يمنع من أن الائتمان يترك في أغلب الأحيان أثراً إيجابياً في تمويل النشاطات الاقتصادية، وفي إيجاد أوضاع من الاستقرار الاقتصادي المقرون بنماء في الدخل. وتتوقف طبيعة الدور الذي يؤديه الائتمان في أي بلد على السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية التي تتبعها الدولة في البلد المعني عامة، وعلى سياسة الائتمان المتبعة فيه خاصةً. وتسعى السلطات المالية في الأنظمة الرأسمالية إلى توسيع منفعة الائتمان والتقليل من انعكاساته السلبية. وتتوخى عادة ـ من إحكام نظم الائتمان وتقييدها ـ التقليل من سوء استعماله، ولجم آثاره السلبية كيلا تؤثر في استقرار النمو الاقتصادي، وكذلك تسعى دائماً إلى المحافظة على حقوق المتعاملين بالائتمان.
إن سياسة الائتمان في أي بلد تتقرر عادة من قبل السلطات المالية على وفق الحاجات الخاصة للبلاد، ولتحقيق الأهداف الاقتصادية والمالية المرغوب فيها في ضوء المعطيات القائمة والتطورات المستقبلية المرتقبة. وترتكز سياسة الائتمان في الأساس على حسن تنظيم القنوات التي تنتقل الادخارات عبرها لتمويل الحركة التجارية والاستثمارات الإنتاجية بغية الوصول إلى حالة توظيف اقتصادي أمثل لكل عناصر الإنتاج المتوافرة في البلد باستقرار خالٍ من الضغوط التضخمية أو الانكماشية. كذلك تحرص السلطات المالية على أن تكون سياستها الائتمانية مشجعة على تحويل الاستثمارات إلى قطاعات اقتصادية مرغوب في تنميتها، أو إلى مناطق جغرافية محرومة، وذلك من أجل تصحيح توازنات اقتصادية معينة أو تحقيق أهداف اجتماعية مطلوبة.
أما الدَّين العام بنوعيه الداخلي والخارجي، فإن انعكاساته الاقتصادية كثيرة ومتشعبة وتتوقف نتائجها على المعطيات الاقتصادية والمالية الغالبة في وقت الإقدام على الاستدانة وعلى المتغيرات الاقتصادية والمالية الطارئة، كما تتوقف على الطريقة التي يجري فيها الاقتراض وعلى المصدر الفعلي للتمويل، وعلى السياسات الاقتصادية والمالية التي تنتهجها الدولة لمواجهة إطفاء الدين المترتب عليها. وإن إقدام الدولة على الاقتراض الداخلي عن طريق بيع سندات عامة داخل البلاد له أثر انكماشي مباشر وآني في الدورة الاقتصادية حينما يشتري السندات الجمهور أو المؤسسات التجارية والمالية، وذلك لما ينتج من سحب سيولة نقدية من التداول مساوية لقيمة السندات المبيعة، ولانتقال هذه المبالغ إلى الدولة. أما إذا قام المصرف المركزي باقتناء هذه السندات فإن الأثر المباشر يكون عادة تضخمياً لما ينتج عنه من زيادات في الكتلة النقدية المتداولة. كذلك تجد الدول نفسها مضطرة أحياناً إلى اللجوء إلى الاقتراض الخارجي مِن خلل في ميزان مدفوعاتها، فتطرح سندات بعملتها الوطنية أو بعملات أجنبية خارج حدودها، أو تلجأ إلى الاقتراض المباشر من الحكومات والمؤسسات المالية الأجنبية، أو تسعى للحصول على تسهيلات ائتمانية لتمويل مستورداتها من الخارج، وهذا كله يرتب عليها أعباء والتزامات تجاه العالم الخارجي كما يوجد حقوقاً للجهات الأجنبية في ناتجها القومي.
والائتمان يعدّ عنصراً عضوياً في عمليات التجارة الخارجية، فبسبب البعد الجغرافي وميل المصدّر إلى تسلم ثمن بضاعته قبل شحنها وحرصه على ضمان ذلك، وبسبب جنوح المستورد إلى عدم دفع ثمن مشترياته إلا بعد تسلمها والتأكد من مطابقتها للمواصفات، تمَّ تاريخياً اللجوء إلى كتب الاعتماد وإلى «البوالص» التجارية لتفي بحاجة الطرفين معاً. وتؤدي المصارف التجارية خدمات مهمة في ضمان هذه الأوراق وإيجاد آلية العمل السهلة التي تفي بحاجات المصدّر والمستورد معاً. يضاف إلى ذلك لجوء بعض المصدرين أحياناً، بغية ترويج بضائعهم، إلى تقديم تسهيلات ائتمانية للمستورد لتمكينه من بيع البضاعة، أو جزء منها، قبل سداد ثمنها كاملاً.
وإن معظم عمليات الائتمان الداخلية والخارجية في عالم اليوم لا تتم مباشرة بين الطرفين المعنيين، بل تجري بطريقة غير مباشرة بوساطة المصارف والمؤسسات المالية المتخصصة، أي إن العمل الأساسي لهذه الأجهزة والمؤسسات هو اجتذاب مال المقرضين ووضعه في متناول المقترضين بأساليب تحفظ حقوق الأطراف المتعاملة وتخدم مصالحها وتعود في الوقت نفسه على المؤسسة بهامش ربح، مما يمكنها من الاستمرار والتوسع في عملها. وقد تنوعت هذه المؤسسات بتنوع القطاعات الاقتصادية التي توجه نشاطاتها نحوها، فهناك المصارف التجارية والمصارف الصناعية والمصارف الزراعية والمصارف العقارية ومؤسسات الادخار والتسليف وصناديق التأمين والتوفير ومؤسسات تمويل الاستهلاك وغيرها.
3ـ الائتمان في البلدان ذات النظام الاقتصادي المختلط: وإذا كان ما تقدم يلقي بعض الأضواء على أثر الائتمان في النظامين الرأسمالي والاشتراكي، فإن للبلدان ذات النظام الاقتصادي المختلط وضعاً خاصاً، وذلك لوجود قطاعين، عام وخاص يعملان فيها جنباً إلى جنب. ففي الأنظمة المختلطة غالباً ما يكون الائتمان المتعلق بالقطاع العام مقيداً بالخطة الاقتصادية، في حين يزاول القطاع الخاص نشاطاته على نحو مشابه لما يجري في البلدان الرأسمالية، وتقوم أجهزة الدولة عادة بالتوفيق بين التناقضات الناجمة عن ذلك. غير أن خصوصية عملية الائتمان في البلدان ذات الاقتصاد المختلط تتحدد بطابع النظام المصرفي القائم الذي يتحكم في الاعتمادات الممنوحة.
منقــول للأمــــــــــــــــــــــــــــانة
أنتظر ردوكـــــــــــــــــــــــــــــــم
ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام