السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإغراق
الإغراق dumping مصطلح يصف حالة بيع السلع في الأسواق الأجنبية بأسعار تقل عن تكاليف إنتاجها، أو تقل عن الأسعار الموضوعة للسلع المماثلة داخل البلد المنتج.
والإغراق ظاهرة منوطة بالأسواق الرأسمالية، وهي سياسة تمارسها الشركات الاحتكارية ولاسيما التسويقية منها، من أجل زيادة قدرتها التنافسية وسيطرتها على الأسواق المحلية والأجنبية وتضخيم أرباحها بأكبر قدر مستطاع.
وتُعرِّف الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة[ر] (الغات Gatt)، الإغراق بعملية توزيع إنتاج بلد معين في أسواق بلد آخر بسعر أقل من السعر الطبيعي normal price، وترى أن تطبيق هذه السياسة قد يلحق أضراراً ببعض الصناعات ولاسيما الصناعات الناشئة، ويعوّق بناء صناعات جديدة في الدول التي تتعرض لسياسة الإغراق.
منذ عشرينات هذا القرن أشار لينين إلى «الإغراق» في مؤلفاته، على أنه نظام التصدير القائم على أساس كسر الأسعار cut rate pricing، ويعدّه نموذجاً لسياسة «الكارتلات» والرأسمالية المالية. وقد حدد مسار هذه العملية على النحو التالي: يبيع الكارتل داخل بلد معين، كالبلد المنتج مثلاً بضائعه بأسعار احتكارية عالية، إلا أنه يبيع مثل هذه البضائع في الأسواق الأخرى بأسعار أقل بكثير في محاولة منه لمنع المنتج المنافس من زيادة إنتاجه إلى مستوى طاقته الإنتاجية القصوى. وفي الوقت الذي يقيد الكارتل من حجم الإنتاج المخصص للأسواق الداخلية فإنه يتوسع في الإنتاج الموجّه إلى الأسواق الخارجية. أما العلامة المميزة لحالة الإغراق فهي وجود اختلاف وتباين واضحين بين الأسعار المحلية المرتفعة جداً وأسعار التصدير المنخفضة. ويعبّر الإغراق بهذه الصورة عن منهجية متعمدة وغير عرضية تتبعها الشركات الاحتكارية في محاولتها الضغط على المنتجين المنافسين.
عندما تمارس الإغراق مؤسسات غير مرتبطة بالإنتاج، أو جهات حكومية، فإنها ترمي إلى التصدير بأسعار أخفض من أسعار شراء المنتجات المماثلة في الأسواق المحلية. وتغطى الخسارة في مثل هذه الحالة من موازنة الدولة عادة. ويشير وجود إعانات التصدير export subsidies وتجاوزها مستويات معينة إلى حالة الإغراق في غالب الأحيان، ويعدّ برهاناً على وجود هذه الحالة.
ولمواجهة الأضرار المحتملة الناتجة عن ظاهرة الإغراق، يطبق الكثير من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية وكندا وأسترالية تشريعات وإجراءات مضادة للإغراق anti dumping legislations لحماية منتجاتها وخاصة عندما تتوقع الدولة أن يؤدي استيراد المواد الخاضعة لسياسات الإغراق إلى إلحاق أضرار بالصناعات المحلية. وغالباً ما تطبق التشريعات المضادة للإغراق في الحالات التالية:
ـ عند استيراد بضائع بسعر أقل من تكلفة إنتاجها.
ـ عندما يصبح بالإمكان إنتاج سلع مماثلة بديلة اقتصادياً وذات ريعية كافية.
ـ عندما يتوقع أن يُحدث الاستيراد أضراراً جسيمة فيما يتعلق باستخدام القوة العاملة وتشغيلها.
ـ عندما تكون الصناعة المحلية المعرضة للضرر قادرة، بفضل استخدام السياسات المضادة للإغراق، على الصمود والاستمرار بالكفاية الاقتصادية اللازمة.
ويسود الاعتقاد لدى الكثير من الدول أن الاستمرار في اعتماد سياسات الإغراق وتكرار مثل هذه السياسات على مجموعات معينة من السلع الأجنبية، يؤدي إلى وجود إحساس بعدم الأمان لدى الصناعات المحلية المقابلة، ويقلل من دوافع التنمية، وأن اتباع هذه السياسات من قبل بعض التجمعات الاقتصادية الاحتكارية، إنما يستهدف في حقيقته تعريض بعض الصناعات الوطنية للتراجع والانهيار ومنع إقامة صناعات بعينها.
أما على المستوى الدولي، فيؤدي الإغراق إلى تضخيم التناقضات بين الدول، وإلى إرباك العلاقات التجارية الدولية، وإلى زيادة عرض السلع والبضائع في الأسواق العالمية بغض النظر عن تكاليف إنتاجها لدى المصدّرين، ويؤدي إلى تعميق المنافسة وإحداث الخلل في التناسبات السعرية الدولية.
وقد مارست الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية سياسات الإغراق بالمنتجات الزراعية على نطاق واسع. ففي المدة بين 1961 و1965 بلغت إعانات تصدير القمح 23% والقطن 36% من قيمة الصادرات الزراعية الأمريكية، كما جرى في المدة بين 1954 و1964 تمويل نحو 54% من تلك الصادرات الزراعية.
وهناك نموذج خاص للإغراق في المرحلة الحالية للأسواق الرأسمالية، وهو ظاهرة الإغراق النقدي الذي يبرز نتيجة الاختلاف الواضح في القوة الشرائية للعملة الوطنية في الأسواق المحلية والأجنبية.
اقتصاد الحرب والدفاع
يهتم اقتصاد الحرب والدفاع Econemie de Guere et de Défense بالآثار الاقتصادية للإنفاق العسكري في الاقتصاد الوطني؛ وبإدارة الاقتصاد في وقت الحرب، إضافة إلى تهيئة الأنشطة الاقتصادية وإعدادها في وقت السلم لمواجهة حالة الحرب عند حدوثها. كما تشمل اهتمامات اقتصاد الحرب والدفاع ميزانيات الإنفاق العسكري وإدارة مخصصات القوات المسلحة ومواردها. ولا يعد اقتصاد الحرب والدفاع فرعاً مستقلاً من فروع علم الاقتصاد، ولكنه أسلوب في تحليل الأنشطة العسكرية والمساعدة ومعالجتها وإدارتها من منظور اقتصادي.
زاد اهتمام الاقتصاديين بمجالات الحرب والدفاع، مع التزايد الكبير في الميزانيات العسكرية من جهة وضخامة النفقات التي تتحملها الدول المتحاربة، وأثر ذلك فيالنشاط الاقتصادي من جهة ثانية.
فقد دأب الاقتصاديون منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى على دراسة أثر الإنفاق العسكري في سير العملية الاقتصادية؛ كما اهتموا بضرورة تكييف النشاط الاقتصاديلتلبية الاحتياجات العسكرية والمدنية على السواء.
ومن المنظور الاقتصادي ليست النفقات العسكرية والحربية مجرد اقتطاع من الفعاليات الاقتصادية، ولكنها أداة تدمير للنشاط الاقتصادي أيضاً، مما يقتضي التخطيطوالتهيئة لإعادة الإعمار بعد انتهاء العمليات الحربية. هذا كله جعل الاهتمام باقتصاد الحرب والدفاع يتزايد يوماً بعد يوم مع اشتداد النزاعات بين الدول أو مجموعات الدول. وبعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين المتصارعين وانحلال المعسكر الاشتراكي فضلاً عن توقيع عدد من اتفاقيات الحد من التسلح وتوقّع المزيد من الانفراج الدولي، في ضوء قيام نظام دولي جديد، ينتظر أن يتحول المجال الرئيسي لاهتمامات اقتصاد الحرب والدفاع إلى إعادة تأهيل الصناعات الحربية لأهداف مدنية، وإلى معالجة المشكلات التي ستنجم عن نزع السلاح مثل إعادة تأهيل أفراد القوات المسلحة وإيجاد فرص عمل لهم، ومعالجة فوائض الإنتاج التي ستترتب على تحويل الإنتاج العسكري إلى إنتاج مدني. إن اهتمامات اقتصاد الحرب والدفاع ستتحول من التدمير إلى البناء، ومن معالجة الانعكاسات السلبية على الاقتصاد ومحاولة تخفيفها إلى دراسة الآثار الإيجابية الممكنة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المستوى الدولي ومحاولة الوصول بها إلى الحد الأعظمي. ويواجه اقتصاد الحرب والدفاع انعطافاً حاسماً في الوقت الراهن في ضوء الاتجاهات الجديدة المتنامية في العلاقات الدولية غير أن اهتماماته السابقة لن تنتهي في القريب العاجل.
القوات المسلحة مستهلكة
الاستهلاك حلقة رئيسة من حلقات دورة الإنتاج في الاقتصاد الوطني، وفي كثير من الأحيان يُعَدّ ضيق السوق الداخلية عقبة كبيرة في طريق النمو الاقتصادي، كما أن الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالاقتصادات الصناعية كثيراً ما تقود الحكومات إلى انتهاج سياسات توسعية للسيطرة على أسواق خارجية لتصريف المنتجات الفائضة؛ مما يؤدي إلى الحروب. هذا ما حدث في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عندما بدأت الدول الصناعية حروبها الاستعمارية لفتح أسواق المستعمرات أمام منتجاتها، وللحصول على مصادر لمواد أولية رخيصة الثمن. وهذا ما حدث أيضاً في الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين دارتا بين القوى الصناعية من أجل إعادة تقسيم المستعمرات، ولاسيما الحرب العالمية الثانية التي دارت إثر التوسع الاقتصادي الذي أعقب الخروج من الأزمة الاقتصادية الكبرى في الثلاثينات من القرن العشرين.
تعاني الاقتصادات المعاصرة من كابوس البطالة من جهة، ومن فائض الطاقات الإنتاجية في الصناعات الثقيلة من جهة أخرى، وفي كلتا الحالتين يكون تضخيم القوات المسلحة مخرجاً ملائماً. فزيادة أفراد القوات المسلحة تولد طلباً واسعاً على قوة العمل فتخلق فرصاً لتشغيلها، كما أن تزويد هذه القوات بالتجهيزات والمعدات والإمدادات العسكرية والمدنية يقتضي تشغيل أعداد كبيرة إضافية من العمال في المصانع والأنشطة المساعدة، وعندما تنوء الاقتصادات الوطنية بعبء توجيه قسم كبير من الطاقات الإنتاجية للأغراض العسكرية الداخلية تلجأ الحكومات إلى تشجيع تصدير المعدات العسكرية، وفي كثير من الأحيان تعمل الأجهزة السرية والديبلوماسية للدول الصناعية الكبرى على تأجيج النزاعات الحدودية بين الدول الصغيرة؛ من أجل دفعها إلى شراء الأسلحة والذخائر مما يوجد سوقاً لتصريف الفائض من إنتاجها العسكري، أو يوجد سوقاً جديدة لصناعات عسكرية جديدة تمتص قوة العمل الفائضة. وفي أحيان كثيرة تحرض هذه الأجهزة بطريقة أو بأخرى على اندلاع الحروب بقصد تدمير الأسلحة المخزنة واستنفاد الذخائر ودفع الدول المتحاربة إلى طلب أسلحة وذخائر بديلة. ولا تقتصر الحروب التي تندلع بين الدول على الاستهلاك العسكري وحده؛ بل تقود أيضاً إلى تدمير البنى التحتية والمؤسسات الصناعية في الدول المتحاربة مما يقتضي إعادة البناء بعد انتهاء الحرب فيتولد بذلك طلب جديد ينشط اقتصادات الدول الصناعية.
إن انتهاء الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وإدراك الدول الصناعية الكبرى أن أعباء الحروب التي تتحملها تذهب بالقسم الأعظم من الفوائد الاقتصادية التي تكسبها نتيجة هذه الحروب؛ والمكاسب الاقتصادية الكبيرة التي تحققت للولايات المتحدة الأمريكية نتيجة الحرب العالمية الثانية التي خاضتها جزئياً خارج أراضيها، وما ترتب على هذه الحرب من ضعف في اقتصادات الدول المتحاربة الأخرى واعتمادها على المنتجات الأمريكية في مرحلة الحرب والإعمار بعدها، كل هذا قاد إلى ظهور استراتيجية جديدة، هي استراتيجية حروب الآخرين.
وقد كان الاستقلال الذي منحته الدول الصناعية المستعمرة لمستعمراتها السابقة أداة مزدوجة لخدمة هذه الاستراتيجية. فمن جهة أولى أضحت الدول المستقلة حديثاً في حاجة إلى إنفاق مبالغ هائلة لبناء جيوشها الوطنية؛ وكانت هذه النفقات تصب في خزائن الدول الصناعية التي تكون عادة هي الدول المستعمرة السابقة فيتحرك النشاط الاقتصادي فيها، ومن جهة أخرى تم رسم الحدود بين الدول المستقلة بطريقة جعلت منها قنابل موقوتة يمكن تفجيرها عند الضرورة؛ سواء كان ذلك بتداخل الحدود تمهيداً للنزاعات بين الدول، أو بإقامة جيوب إثنية أو طائفية لإثارة الحروب الأهلية أو خلق الشروط للتدخلات الخارجية. كل ذلك يؤلف خطراً دائماً يقتضي من هذه الدول تخصيص مبالغ طائلة لأغراض الدفاع، إضافة إلى التطوير المستمر في الأسلحة الذي يجعل الدول المستقلة عاجزةً عن تصنيع الأسلحة والذخائر بنفسها وتابعةً دائماً لسوق السلاح العالمية المتركّزة في الدول الصناعية الكبرى. كما أن تطوير الأسلحة بسرعة يقتضي من الدول استبدال ترسانات جديدة بترساناتها القائمة، مشكلةً بذلك سوقاً دائمة للصناعات العسكرية في الدول الصناعية إضافة إلى الاستهلاك الخاص للقوات المسلحة فيها.
وتشير الدراسات المتوافرة إلى أن نفقات الحرب والدفاع تؤلف جزءاً كبيراً من الاستهلاك العام في الدول الصناعية والنامية على السواء، وهذه النفقات تتزايد تزايداً مذهلاً عند احتدام النزاعات ولاسيما الحروب، وما يترتب عليها من أعمال التعبئة والتدمير والتخريب. وتقدر بعض المصادر أن تكاليف الحرب العراقية الإيرانية التي دامت نحو ثماني سنوات زادت على ثلاثمئة مليار دولار أمريكي في الجانبين معاً، كما تقدر مصادر أخرى تكاليف الحرب التي شنها التحالف الدولي على العراق عام 1991 والتي استمرت أكثر من شهر بقليل بنحو150 مليار دولار عدا الخسائر الناجمة عن التدمير الذي لحق بالكويت والعراق والذي تفوق قيمته مبلغ النفقات الحربية.
تستأثر الموازنات العسكرية المعلنة بمبالغ ضخمة تشمل إضافة إلى رواتب العسكريين، طلبات ضخمة للمعدات والذخائر تؤدي إلى تشغيل عدد كبير من المصانع التي تستوعب ملايين العمال وتعطي أرباحاً بمليارات الدولارات. وتكفي الإشارة إلى أن الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية بلغ في عام 1990 أكثر من 289 مليار دولار وفي عام 1991 بلغ 287.45 مليار دولار، كما بلغت ميزانية النفقات العسكرية المقترحة لعام 1992 أكثر من 278 مليار دولار، وذلك بعد تخفيضها في أعقاب انتهاء الحرب الباردة والانفراج الدولي، وتوقيع اتفاقيات الحد من الأسلحة مع روسية الاتحادية. كما بلغت ميزانية النفقات العسكرية الحقيقية المعلنة رسمياً في الاتحاد السوفييتي لعام 1991 (قبل انحلاله) أكثر من 133 مليار دولار، في حين تقدر المصادر الغربية هذه الميزانية بمبلغ 238 مليار دولار. وبلغت النفقات العسكرية لعام 1991 في فرنسة 37.34 مليار دولار، وفي إنكلترة 38.52 مليار دولار لعام 1990 وهذه النفقات في تزايد مطرد سنة فسنة على الرغم من حالة الانفراج الدولي الملاحظة حالياً. وتصل نسبة النفقات العسكرية في بعض الدول إلى أكثر من 30% من الناتج المحلي. وهكذا يتضح أن القوات المسلحة في أي بلدٍ من بلدان العالم هي سوق استهلاكية كبيرة، حتى في زمن السلم، يؤثر طلبها المتزايد في إعادة الإنتاج الاجتماعي، ويتوقف عليه إلى درجة كبيرة حسن سير الاقتصاد الوطني في كل قطاعاته، أما في أوقات الحرب فيتضاعف الاستهلاك العسكري عشرات بل مئات الأضعاف أحياناً، ويصبح عبئاً كبيراً على الاقتصاد الوطني. فقد بلغ نصيب الفرد من الإنفاق العسكري في إسرائيل في عام 1991 أكثر من 1325 دولاراً أمريكياً؛ منها نحو 375 دولاراً على حساب المساعدات العسكرية الخارجية التي تؤلف المساعدات الأمريكية أكثر من ثلثيها. ولابد من الإشارة إلى خصوصية النفقات العسكرية في الدول غير الصناعية، فتلك النفقات لا تولد بمجموعها طلباً داخلياً بل يتجه القسم الأعظم من الطلب إلى اقتصادات الدول المصدرة للسلاح ولذلك فإن أثر الإنفاق العسكري في البلدان النامية يختلف عن أثره في الدول الصناعية.
اقتصاد الحرب والتعبئة الاقتصادية
إن توقع حدوث الحرب يجعل القيادة السياسية ومن ثم قيادة القوات المسلحة تركز اهتمامها وتعطي الأولوية للتعبئة السريعة للقوات، وإمكان الانتشار السريع لأكبر القوات وأفضلها تجهيزاً. حتى في حالة السلم والانفراج فإن القوات المسلحة تولي مسألة التعبئة اهتماماً خاصاً، إذ لا يمكن الاعتماد على الصناعات الحربية مهما بلغت طاقاتها الإنتاجية لتوفير متطلبات القوات المسلحة في أوقات اندلاع الحروب مباشرة وفي الزمان والمكان المناسبين، لهذا كان لا بد من العمل على تطوير الأبحاث العسكرية، ووسائل النقل والتخزين والصيانة مما يقتضي، زيادة متواصلة للنفقات ترافقها دعاية نشيطة لتسويغ الأعباء الكبيرة وإقناع دافعي الضرائب بذلك. وهنا أيضاً يجب التفريق بين الدول الاستعمارية والدول الحديثة الاستقلال، فالدول الاستعمارية تخطط للحروب من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية أكبر للاحتكارات والشركاتالرأسمالية المسيطرة على أنظمة الحكم فيها التي تسخرها لمصلحتها، وتكون لها في الحروب مصلحة مزدوجة: كسب أسواق خارجية لتصريف منتجاتها والحصول على المواد الأولية بأسعار رخيصة من جهة، والحصول على طلبات لصناعاتها الحربية أو «طلبات» إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب من جهة ثانية. وتحتاج حكومات هذه الدول إلى جهود كبيرة من أجل إقناع الأحزاب السياسية والتنظيمات العمالية وغيرها من الفئات للموافقة على تمويل العمليات الحربية؛ وقبول التضحية بدخول حرب من غير أن يكون لها مصلحة ظاهرة فيها. أما الدول الحديثة الاستقلال التي تضطر إلى الدفاع عن سيادتها وعن ترابها الوطني حيال الأخطار الخارجية فإن تعبئة الرأي العام فيها أسهل ولا تحتاج إلى جهد كبير، لكن التعبئة الاقتصادية فيها مكلفة جداً وقد تهدد عملية النمو الاقتصادي بالتوقف إذا لم تتراجع. والتعبئة الاقتصادية للحرب لا تكون من طرف واحد، إذ يفرض مفتعل الحروب تعبئة مقابلة لأغراض الدفاع، فيكون سباق التسلح بين الطرفين، كما حدث في سباق التسلح البحري الإنكليزي ـ الألماني قبل الحرب العالمية الأولى الذي قدم أفضل الصور المبكرة لسباق التسلح المعتمد على التسابق في ميدان الاختراعات حتى لو لم تجرب في المعارك. لقد ارتفعت نفقات ألمانية على القوات المسلحة من نحو 11 مليون جنيه استرليني في عام 1870 إلى 111 مليون جنيه عام 1914 وفي المدة نفسها زادت نفقات امبراطورية النمسة والمجر من 8 ملايين جنيه إلى 36 مليوناً، كما ارتفعت نفقات بريطانية على قواتها المسلحة من 23 مليون جنيه إلى نحو 77 مليون جنيه في المدة ذاتها. هذه الأرقام تعد ضخمة جداً بمقاييس ذلك الزمن وبتقدير تقريبي كانت هذه النفقات تؤلف 4.6% من الناتج القومي الإجمالي في ألمانية و6.1% في امبراطورية النمسة والمجر و3.4% في بريطانية. أما سباق التسلح الذي بدأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية في حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين المتصارعين؛ الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق، فإن آثاره لم تقتصر على الدول الأعضاء في الحلفين العسكريين ـ حلف الناتو وحلف وارسو ـ بل أدى ذلك إلى انقسام العالم بأسره تقريباً إلى جبهتين متقابلتين جعل كل دولة من دول العالم، مهما اختلف موقفها السياسي مع الغرب أو مع الشرق أو اختلف موقعها الجغرافي؛ جعلها مضطرة إلى تخصيص مبالغ كبيرة من مواردها لأغراض التعبئة الاقتصادية العسكرية، وذلك لمواجهة الأخطار التي قد تتهددها من إحدى جاراتها التابعة للمعسكر الآخر. والأمثلة كثيرة على ذلك: الهند والباكستان، الدول العربية وإسرائيل، إيران والعراق، الكوريّتان، الصين وتايوان وغيرها. ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى أن النفقات العسكرية حتى بعد انتهاء الحرب الباردة والاتجاه العالمي إلى تقليص النفقات الحربية، تؤلف على التوالي 5.4%، 11%، 3.1%، 7.1%، 2.6%،21%، 12%، 9.3% من مجمل الناتج القومي الإجمالي في الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي السابق، والهند، والباكستان، وإيران، والعراق، وإسرائيل، وسورية.
وحيال التقدم الهائل الذي حققته تقنيات التسلح، وتوافر قوة الردع النووي لدى كل من المعسكرين المتصارعين تحولت الاستراتيجية العسكرية من المواجهة إلى الاستنزاف، ومن الحروب العالمية الشاملة إلى الحروب الإقليمية الاختبارية. وفي هذه الأحوال أصبحت التعبئة الاقتصادية وسباق التسلح عملين موجهين إلى الدول الضعيفة اقتصادياً؛ لصرفها عن تحسين وضعها الاقتصادي بالتركيز على التسلح والتعبئة العسكرية، مما قاد إلى انهيار الدول الضعيفة كما حدث لدول المعسكر الاشتراكي السابق، واضطرار دول كثيرة إلى تغيير مواقفها السياسية والانضواء تحت لواء الولايات المتحدة الأمريكية. والاستنزاف لا يقتصر على الموارد المالية فحسب بل يتعداها إلى القوى البشرية والموارد الطبيعية أيضاً، ذلك أن الخطر المحدق بالدول يدعوها إلى زيادة عدد القوات المسلحة مما يشكل عبئاً على نموها الاقتصادي، بتحويل قسم متزايد من القوة العاملة من مجال الإنتاج المدني إلى مجال الخدمة العسكرية والصناعات الحربية. وهذا يعني أن تحتفظ الدول بقوات مسلحة كبيرة العدد نسبياً في أوقات السلم، في حين تعتمد مبدأ التعبئة العامة في أوقات الحرب؛ باستدعاء قوات الاحتياط وفصل أفرادها من أعمالهم المدنية للالتحاق بصفوف الجيش. ولبيان أهمية التعبئة وأثرها تكفي الإشارة إلى أن أفراد القوات المسلحة العاملة في إسرائيل يؤلفون أكثر من 3% من مجموع السكان؛ أي نحو 10% من قوة العمل، في حين تؤلف القوات الاحتياطية 10.5% من السكان أي نحو35% من قوة العمل، مع العلم أن أفراد القوات الاحتياطية يخدمون في القوات المسلحة شهراً على الأقل في السنة. وفي سورية يكون هذان المؤشران3% لكل منهما. وهكذا يتضح مدى اعتماد الكيان الصهيوني على قواته الاحتياطية لاستحالة تحمل الاقتصاد الإسرائيلي أعباء التعبئة الدائمة. لذلك تقوم استراتيجية العدو الصهيوني على الحرب الخاطفة التي توفر له عنصر التفوق على الجانب العربي، لتمكنه من تعبئة الاحتياط وزجه في المعركة بسرعة فائقة. ويترتب على التعبئة الاقتصادية لأغراض الحرب والدفاع ارتفاع نسبة التضخم، بسبب زيادة النفقات العسكرية في الدخل القومي، وتشويه بنية الإنتاج لمصلحة الصناعات العسكرية على حساب الصناعات المدنية، كما تضطر الحكومات إلى زيادة الأعباء الضريبية لتمويل الإنفاق العسكري والعمليات الحربية.
الحرب والدفاع وتدخل الحكومة في الاقتصاد
إن حاجة القوات المسلحة إلى الإمدادات العسكرية والنقص الحاد للسلع في القطاع المدني الناجم عن زيادة الطلب في أثناء الحرب؛ إضافة إلى الفوضى التي قد تعم الأسواق تقود الحكومات، بصرف النظر عن نظامها الاقتصادي، إلى التدخل في الاقتصاد، فتعمد إلى توزيع الموارد والبضائع بقرارات إدارية متجاوزة آلية السوق عندما تدعو الضرورة. وتؤكد هذا الاتجاه تجربة الحربين العالميتين، وكذلك تجربة بعض الحروب الإقليمية التي طال أمدها؛ ذلك أن تدخل الدولة لمعالجة النقص في سلعة معينة قد يؤدي إلى اضطراب في مجالات أخرى من الاقتصاد مما يدعوها إلى تدخل أكبر وهكذا، ونتيجة لهذا التدخل تجد الدولة نفسها ملزمة، بحكم الضرورة، برفضالحرية الاقتصادية والأخذ بمبدأ التوجيه الإداري للموارد والسلع وإخضاع الإنتاج والاستهلاك المدنيين للأغراض الحربية. وفي العادة تفرض الحكومات في أثناء الحرب رقابتها على جميع مناحي الاقتصاد وتراوح طرق الرقابة بين الإدارة الحكومية المباشرة للصناعات الخاصة والمصادرة التامة وتقييد النشاط بمنح الرخص الرسمية والاحتكار الحكومي لشراء بعض السلع الخاصة، إضافة إلى تثبيت الأسعار وفرض الرقابة التموينية المشددة. وقد تضطر الحكومات أحياناً إلى تقنين بعض المواد الأساسية والسلع الاستهلاكية الأخرى فتعمل على توزيعها بموجب البطاقة التموينية. كما تلجأ الحكومات أحياناً أخرى إلى إجبار أصحاب المؤسسات على تغيير إنتاجهم من الإنتاج المدني إلى العسكري أو توسيع نشاطهم وزيادة «ورديات» العمل، وفي حالة الضرورة القصوى تقوم الحكومة بتشغيل المؤسسات من قبل أفراد القوات المسلحة بإشراف أصحابها. ولكي تتمكن الحكومات من التدخل في الاقتصاد على هذا النحو مع تقليص حرية النقابات وأرباب العمل تلجأ غالباً إلى فرض قوانين الطوارئ والحصول من «البرلمانات» على صلاحيات إضافية طارئة تمكنها من قيادة المجتمع برمته باتجاه الأهداف الحربية، وفي الوقت نفسه تسن الحكومات قوانين لزيادة جباية الضرائب لتمويل العمليات الحربية، فتتجمع نتيجة لذلك نسب كبيرة من الدخل القومي بيد الحكومة. وفي مراحل الإعداد للحروب تلجأ الحكومات إلى بناء مصانع الظل مباشرة أو إلى إلزام مؤسسات القطاع الخاص ببنائها. ومصانع الظل هي المصانع المصممة بطريقة تجعل من الممكن تحويلها من إنتاج السلع المدنية إلى الإنتاج الحربي، ومثل هذه المصانع مفيدة جداً للدول التي تعيش حالة حرب دائمة؛ كما هي الحال في الدول العربية التي فرض عليها العدوان الإسرائيلي المستمر ضرورة تخصيص معظم مواردها وتوجيه غالبية نشاطها الاقتصادي لأغراض الدفاع، كما أن كثيراً من الدول المتحاربة تفرض ضرائب مؤقتة إضافية يعمل بها في الحرب كضريبة المجهود الحربي في سورية التي تمثل إضافة قدرها 30% من مبلغ الضريبة الأصلية تجبى سنوياً مع الضريبة المترتبة على الدخل، وغالباً ما يفيد تدخل الدولة بصوره المختلفة في تحقيق زيادة الإنتاج أو وقف تناقصه وفي زيادة إيرادات الخزينة لتمويل العمليات الحربية، مما يجنب الاقتصاد الوقوع في التضخم الجامح. فقد أكدت تجربة الحرب العالمية الأولى جدوى تدخل الدولة في كل من إنكلترة والولايات المتحدة الأمريكية في الحياة الاقتصادية؛ إذ خرجت الدولتان من الحرب في حالة اقتصادية مقبولة في حين لم تنجح ألمانية في تخطيط اقتصادها الوطني لأغراض الحرب، مما قاد إلى انهيارها اقتصادياً وهزيمتها عسكرياً. أما في الحرب العالمية الثانية فقد تغير الأمر، إذ ركزت كل من إنكلترة والولايات المتحدة في بداية دخول كل منهما الحرب على الصناعات العسكرية، وتوجيه الاقتصاد لأغراض الجبهة، في حين كانت ألمانية تركز اهتماماتها على حماية الإنتاج المدني والاكتفاء بالحد الأدنى من الإنتاج العسكري معتمدة على نحو رئيسي إنتاجها العسكري المخزن في سنوات ما قبل الحرب. وعلى الرغم من الجهود المكثفة التي بذلتها ألمانية في السنوات الأخيرة للحرب، بعد هزيمتها في ستالينغراد وتزايد القصف الاستراتيجي من قبل قوات الحلفاء، لم تستطع تدارك ما أهملته في بداية الحرب مما أثر في نتيجتها.
تجارة السلاح الدولية
تعد تجارة السلاح من التجارات الرائجة جداً وقد تطورت تطوراً كبيراً وبلغت أرقاماً خيالية. لقد كان من المتوقع أن ينفق العالم غير الشيوعي نحو مئة مليار دولار على المعدات العسكرية في العقد من 1965 إلى 1974 فيتم تحويل ما قيمته 30 مليار دولار دولياً عن طريق التجارة أو المساعدات العسكرية؛ وهذه الأسلحة المصدرة تتجه نحو الدول الحديثة الاستقلال الموالية سياسياً للمعسكر الغربي. في حين تجاوزت صادرات الأسلحة التقليدية وحدها من 68 دولة فقط في العقد من 1981 إلى 1990 مبلغ 346 مليار دولار بأسعار1985 الثابتة. وجاء الاتحاد السوفييتي في مقدمة الدول المصدرة للسلاح في هذا العقد إذ تجاوزت صادراته من الأسلحة 121 مليار دولار وتلته الولايات المتحدة الأمريكية متجاوزة مبلغ 111 مليار دولار بأسعار 1985 الثابتة أيضاً. ويلاحظ أن صادرات الاتحاد السوفييتي قد تراجعت في عام 1990 بنسبة كبيرة عما كانت عليه في الأعوام السابقة، في حين حافظت أرقام صادرات الأسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية على مستواها تقريباً مع تراجع طفيف في عام 1990. وتقتصر صادرات الأسلحة المشمولة في هذه الإحصائية على الأسلحة التقليدية ولا تشمل الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية أو عناصر إنتاج الأسلحة النووية أو الرؤوس الجاهزة التي تدخل، إن وجدت، في إطار تجارة الأسلحة السرية.
ليست تجارة الأسلحة عملية تبادل اقتصادي بالمعنى الخالص للكلمة، إنما هي إضافة إلى خاصيتها التجارية، تعبير عن مواقف سياسية، إذ تقتصر صادرات أي دولة من السلاح على الدول التي تعدها حليفة؛ و يكفي النظر إلى قائمة الدول المستوردة للسلاح من أي دولة مصدرة له للتأكد من كون تصدير السلاح عملية سياسية إلى جانب كونها عملاً اقتصادياً. غير أن الجانب الاقتصادي مرشح للقيام بدور أكبر بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الاستقطاب الدولي، لأن احتياجات الدول المصنعة للسلاح ستكون أقل من طاقات مصانعها الإنتاجية بكثير، كما أن عدم حاجتها إلى دول تابعة سيدفعها إلى تصدير الأسلحة إلى الدول الراغبة في اقتنائها من أجل توفير فرص عمل لقوة العمل المتوافرة لديها. وبسبب الطابع السياسي لتجارة الأسلحة وتقييد التصدير من قبل الحكومات المصنعة تحرص جميع الدول على دخول مجال صناعة الأسلحة والذخائر كلما أتيحت لها الفرصة. وكثيراً ما تقيد الدول المصدرة للسلاح استعماله بأغراض معينة، أو تمنع تزويد الدول المستوردة بقطع التبديل اللازمة ومواد الصيانة والتشغيل، إذا خالفت شروط البيع أو إذا تغيرت أنظمتها السياسية ومواقفها فتتحول الأسلحة المستوردة إلى مجرد «خردة» لا تصلح للاستعمال، كما حدث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي كانت تعتمد في عهد الشاه على السلاح الأمريكي ثم تحولت بعد الثورة إلى الصين وكورية ومصادر أخرى.
ويجمع خبراء القانون الدولي في الدول الصناعية المتقدمة على ضرورة فرض رقابة دقيقة وسيطرة فعالة على تجارة الأسلحة، بحجة منع وقوع السلاح في أيدي «أطراف غير مسؤولة» مما قد يهدد الأمن والسلام. غير أن الدافع الحقيقي لمثل هذه الرقابة والسيطرة يكمن في عدم تمكين الدول والحكومات غير الموالية من الحصول على الأسلحة حتى يمكن «تأديبها» من قبل الدول الإقليمية التابعة أو المتحالفة التي تقوم بدور الشرطي كما هي الحال في الصراع العربي الإسرائيلي؛ إذ تزود الدول الغربية إسرائيل بالأسلحة المتطورة في حين تمنع بيعها للدول العربية من أجل المحافظة على التفوق العسكري الإسرائيلي كمّاً ونوعاً، ولكي تبقى الدول الرأسماليةالصناعية مسيطرة على مقدرات المنطقة وقادرة على تهديد أمن أي دولة تحاول شق عصا الطاعة أو تنحو إلى بسط سيطرتها على مواردها الطبيعية بما يضمن مصلحتها الوطنية. ويمكن التأكيد أن تجارة الأسلحة لا تتم بمعزل عن السيطرة بل تعد هذه التجارة أحد المجالات المسيطر عليها على نحو كبير في التجارة الدولية. إذ تأسست لهذه الغاية لجنة التنسيق للسيطرة المتعددة الجوانب على تصدير الأسلحة الكوكوم cocom وهي لجنة طوعية تشارك فيها سبع عشرة دولة ومقرها في باريس تشرف على تصدير السلاح إلى مختلف الدول، وتراقبه كما تشرف على التشريعات الخاصة بتصديره في كل دولة. وأخيراً فقد تدخلت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في عملية الإشراف والرقابة على تصدير الأسلحة وأصدرت المؤسستان الدوليتان قرارات بحظر تصدير السلاح إلى مناطق محددة من العالم أو تقييده بحجة حماية السلام العالمي، وإن كانت ملامح السيطرة على قرارات الهيئات الدولية وتوجيهها لمصلحة أطراف معينة غير بعيدة عن الواقع، كما هي الحال في حظر تصدير السلاح إلى بلدان معينة بسبب عدم تنفيذها قرارات مجلس الأمن الدولي أو بدعوى عدوانها على الدول المجاورة في حين يتم تزويد إسرائيل بترسانات ضخمة من الأسلحة من مختلف المصادر على الرغم من حروبها المستمرة على البلدان العربية واستمرار احتلالها أراضي من دولتين عربيتين إضافة إلى اغتصابها كامل التراب الفلسطيني وتمردها المستمر على قرارات الشرعية الدولية.
اقتصاد الحرب و«عسكرة» الاقتصاد
تعد عسكرة الاقتصاد ظاهرة قديمة في العالم وقد تمثلت في البداية بتعبئة الموارد البشرية، وهي القوة الوحيدة المنتجة في ذلك الوقت وبتوجيه هذه الموارد لأغراض الحرب في صورة غزوات وحملات عسكرية. ومنذ بداية القرن العشرين، وبعد أن تم استعمار معظم مناطق العالم بدأت الأقطار الصناعية بتوجيه اقتصادها نحو بناء الصناعات الحربية بهدف تدعيم دورها في اقتسام المستعمرات وإعادة اقتسامها من أجل إيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها، والبحث عن مصادر المواد الأولية، وفي الوقت نفسه كانت هذه البلدان تبحث عن مجالات لاستثمار فوائضها النقدية ودعم نموها الاقتصادي. وهكذا بدأت عسكرة الاقتصاد الوطني بهدف دعم نمو الإنتاج المدني وتوسيعه ولكن مع توسع الإنتاج الحربي وتركيز قسم متزايد من قوة العمل في الصناعات العسكرية، بدأ علماء الاقتصاد يرون في العسكرة وسيلة لمواجهة الأزمات الاقتصادية وخلق فرص عمل جديدة لمواجهة البطالة. ففي سبعينات القرن العشرين كان يعمل في الصناعات الحربية والخدمات التابعة لها أكثر من 30 مليون شخص في الدول الرأسمالية الصناعية ومجموعة البلدان التابعة لها ولم يكن عدد العاملين في دول المعسكر الاشتراكي والدول التابعة لها، أقل من هذا العدد إضافة إلى عدد القوات المسلحة الذي يصل إلى أكثر من عشرة ملايين شخص في كل من المعسكرين. وتتبدّى عسكرة الاقتصاد الوطني إضافة إلى ذلك في زيادة النفقات العسكرية والتوسع في القواعد العسكرية خارج الحدود على الأخص في زيادة مشتريات الدول الصناعية من الإنتاج الحربي وتخزينه أو تقديمه مساعدات عسكرية للدول الحليفة. لقد ارتفعت مشتريات الحكومة الأمريكية العسكرية من 29.4 مليار دولار عام 1963 إلى 44.6 مليار دولار عام 1967 ومازالت تتزايد سنة بعد أخرى. كما تخصّص الحكومات في الدول الصناعية مبالغ كبيرة للإنفاق على معاهد الدراسات العسكرية واقتصادات الحروب، وتقود عسكرة الاقتصاد إلى مزيد من علاقات المصلحة بين احتكارات صناعة الأسلحة والقادة العسكريين، إذ يعمل هؤلاء القادة لمصلحة احتكارات السلاح سواء في زيادة الطلبيات العسكرية أو بافتعال النزاعات العسكرية للتأثير في الحكومات لزيادة الإنفاق العسكري. ولأن الصناعات الحربية تعمل عادة، بناء على طلبات مسبقة ووفقاً لمواصفات محددة، فإن أسعارها لا تتحدد وفقاً للعبة السوق ولا بالقيمة الاجتماعية بل تتحدد وفقاً لآلية الأسعار الاحتكارية وبالاتفاق المباشر مع القادة العسكريين وبالتالي فإنها تحقق معدلات ربح عالية ولا تعاني من أي مخاطرة في الإنتاج سوى مخاطرة وقف الطلبيات في حالة الانفراج الدولي وحل النزاعات بالطرق السلمية؛ لذلك فإن عسكرة الاقتصاد وزيادة دور الإنتاج الحربي في مجمل الناتج القومي الإجمالي هما عاملا ضغط كبيران على الحكومات من أجل الدخول في نزاعات عسكرية مسلحة لاستمرار تشغيل هذه الصناعات وعدم تعريض أعداد كبيرة من العاملين فيها إلى خطر البطالة. وفي ظل توازن الرعب النووي وخطر اندلاع حرب نووية تدمر العالم، تميل الحكومات في الدول الصناعية والاحتكارات العالمية المصنعة للسلاح إلى تشجيع الحروب المحلية من أجل إيجاد سوق لتصريف منتجاتها وزيادة أرباحها. كما أن عسكرة الاقتصاد عقبة كبيرة في طريق الحد من التسلح وفي طريق الانفراج الدولي. وما لم يُحوّل قسم متزايد من مصانع الأسلحة للأغراض المدنية وفقاً لخطة مدروسة فمن المشكوك فيه أن يتحقق السلام في العالم. وتعد حالة الاقتصاد الإسرائيلي أكبر شاهد على ذلك، فالصناعات الحربية الإسرائيلية تؤلف نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإسرائيلي، ويعمل فيها عدد متزايد من العمال، ولهذا فهي تضغط دائماً على الدوائر الحاكمة في إسرائيل لإشعال الحروب مع جاراتها أو لتحريض الدول الأخرى على الحرب؛ لتجد أسواقاً لصادراتها من السلاح، إذ تؤلف صادرات الأسلحة الإسرائيلية بنداً رئيساً في قائمة السلع المصدرة.
الصراع العربي الصهيوني واقتصاد الحرب والدفاع
السياسة تعبير عن المصالح الاقتصادية، فكل دولة وكل فئة داخل الدولة تتخذ مواقفها السياسية من مختلف القضايا في ضوء ما يلائم مصلحتها الاقتصادية. والحروب تعبر بلغة مختلفة عن مواقف سياسية، وهكذا فالعلاقة وثيقة بين الحرب والاقتصاد. فالحروب الاستعمارية بمختلف أنواعها كانت بغرض المكاسب الاقتصادية، وعندما تشعر أي دولة معتدية أن تكاليف الحرب أكثر مما تدره عليها من أرباح اقتصادية تحجم عنها وتجد لنفسها مخرجاً منها في النهاية، ولكن لا بد من التفريق بين حروب التحرير والحروب الدفاعية التي تكون مفروضة بفعل العدوان الخارجي والاحتلال والمساس بالسيادة الوطنية، والحروب العدوانية والاستعمارية التي يهدف مفجروها إلى تحقيق المكاسب والأرباح الاقتصادية. فالأولى بخلاف الثانية ليست خاضعة لحسابات الربح والخسارة أو على الأقل فإن حساباتها مختلفة تنطلق من حساب الوجود أو اللاوجود، فهذه الحروب مفروضة ويجب الإعداد لها اقتصادياً وسياسياً دفاعاً عن الوجود القومي والحضاري كما هي حال الحروب العربية الإسرائيلية فهي عدوان امبريالي على الأرض العربية بداية من فلسطين، ومن ثم في سورية ومصر والأردن ولبنان؛ لتحقيق مزيد من التوسع والكسب وفرض الهيمنة على الموارد والأسواق العربية تبعاً لحاجات العدو الصهيوني والقوى الامبريالية التي تقف وراءه وتدعمه في عدوانه. وما دامت الحرب الإسرائيلية على الأرض العربية رابحة بالمقاييس الاقتصادية سواء لإسرائيل أو للقوى الداعمة لها، فإنها ستستمر في المحافظة على الأراضي المحتلة من جهة والعمل على احتلال أراض جديدة من جهة ثانية. أما عندما يصبح الاحتلال والعدوان عبئاً اقتصادياً على العدو الصهيوني وعلى القوى التي تقف وراءه لابد أن يتغير الموقف، وستعمد الأطراف المعتدية والداعمة له إلى البحث عن تسوية تحاول من خلالها الحصول على أكبر مكاسب ممكنة في ضوء نسبة القوى الفاعلة على الساحة. وتدخل في الحساب كل عناصر الربح والخسارة ومنها تكاليف الاستمرار في العدوان أو التوسع وكذلك الأرباح الناجمة عن إقرار السلام في المنطقة؛ سواء ما تعلق منها باختصار تكاليف الحرب أو ما تعلق منها بالفرص الاستثمارية وتوسيع الأسواق للسلع المدنية؛ أو أرباح البناء وإعادة الإعمار وغيرها. والحساب لا يجري من منظور العدو الصهيوني وحسب بل من منظور القوى الداعمة له؛ إذ تشمل تكاليف المساعدات العسكرية التي تتحملها تلك القوى والخسائر الناجمة عن المقاطعة التي تصيب شركاتها إضافة إلى مشاعر الغضب التي تنتاب الشارع العربي بسبب الانحياز الغربي للعدو الصهيوني؛ وما يسببه من أضرار اقتصادية تلحق بالاقتصادات الغربية. والمهم للاقتصاد العربي في مواجهة العدوان الصهيوني أن يدعم عوامل قوته المتمثلة في توافر مصادر مالية كبيرة وقوة عمل غزيرة إضافة إلى التنوع المناخي وسعة السوق العربية وضخامة الموارد الطبيعية التي توفر للأمة العربية مركزاً تفاوضياً قوياً مع القوى الاقتصادية الكبرى وعامل ضغط كبير عليها، إذا أحسن استخدام هذه العوامل، كما يجب أن يعمل على إضعاف قوة العدو لتتحول حربه العدوانية إلى عبءٍ اقتصادي لا عليه وحسب بل على داعميه أيضاً. وتعد المقاطعة العربية للشركات المتعاملة مع العدو الصهيوني سلاحاً قوياً على الرغم من بعض الضرر الذي يمكن أن تلحقه بالاقتصاد العربي نفسه أحياناً. كما تعد المساعي والضغوط العربية لتقليص المساعدات الخارجية المقدمة إلى إسرائيل وسيلة أخرى فعالة لكسب المعركة في مصلحة الحق العربي.
ويسبب العدوان الصهيوني على الأمة العربية نزفاً مستمراً وتحويلاً لاهتمامات الأمة العربية إلى أغراض الدفاع والإنفاق العسكري بدلاً من التوجه نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ففي عام 1990 بلغت ميزانية الدفاع في ثمانية عشر بلداً عربياً تتوافر عنها معلومات كافية أكثر من 50 مليار دولار أي ما يعادل 12.5% من مجمل الناتج المحلي في هذه البلدان؛ كما بلغ فيها مجموع القوات المسلحة العاملة للعام نفسه مليونين ومئة وخمسة عشر ألف شخص؛ في حين بلغت ميزانية الحرب في الكيان الصهيوني للعام نفسه 6.16 مليار دولار إضافة إلى المساعدات العسكرية التي يتلقاها الكيان الصهيوني من الولايات المتحدة الأمريكية التي تصل إلى نحو ملياري دولار أي ما يعادل 16% من مجموع الناتج القومي. ويلاحظ أن إسرائيل كانت تخصص مبالغ أكبر ونسبة مئوية أعلى من دخلها القومي لأغراض الحرب إذ بلغ إنفاقها الحربي عام 1982 أكثر من 8.242 مليار دولار إضافة إلى المبالغ الإضافية التي أنفقتها لتغطية تكاليف حرب لبنان والمقدرة بنحو 1.5- 2 مليار دولار وفي عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين كانت إسرائيل تخصص بين 30 - 25% من الدخل القومي لتمويل عملياتها الحربية.
غير أن انعكاس النفقات الحربية في إسرائيل مختلف عن انعكاس الإنفاق الدفاعي في البلدان العربية، فالاقتصاد الإسرائيلي موجه أصلاً باتجاه اقتصاد الحرب من حيث بنية الصناعات واستقبال المهاجرين الشبان من كل بلدان العالم لدعم القوة البشرية العسكرية، ولذلك فإن الاقتصاد الإسرائيلي هو في حالة تعبئة مستمرة ومهيأ لخوض الحروب الخاطفة وتوجيه ضربات سريعة إلى الاقتصادات العربية والتحصينات في جبهات القتال. إن عسكرة الاقتصاد في الكيان الصهيوني ظاهرة واضحة بكل المقاييس سواء من حيث نسبة الإنتاج الحربي من الناتج القومي أو من حيث نسبة الصادرات العسكرية إلى مجمل الصادرات أو من حيث نسبة عدد العاملين في القوات المسلحة وإنتاج الأسلحة والخدمات المرتبطة بالإنتاج الحربي إلى مجموع القوة البشرية.
ويتحمل الاقتصاد الإسرائيلي أعلى عبء إنفاق عسكري في العالم، إذ يصيب الفرد الواحد من النفقات الحربية ما يقرب من 1500 دولار سنوياً، كما يبلغ عدد العاملين في القوة العسكرية أكثر من خمسين شخصاً لكل ألف شخص من السكان؛ ولكن ما يخفف من وطأة هذا العبء إلى حد ما الإنتاج الحربي المحلي والصادرات العسكرية الإسرائيلية من هذا الإنتاج خلافاً لما هي عليه الحال في البلدان العربية إذ ليس للصناعات الحربية فيها دور يذكر وتعتمد هذه البلدان على استيراد الأسلحة والذخائر، فقد بلغت مستوردات البلدان العربية من الأسلحة التقليدية في عقد الثمانينات ما يزيد على 91 مليار دولار أمريكي بأسعار 1985 الثابتة في حين لم تستورد إسرائيل سوى ما قيمته أقل من 7.5 مليار دولار في المدة نفسها، وفي هذه المدة صدرت إسرائيل ما قيمته 2.563 مليار دولار في حين لم تصدر البلدان العربية مجتمعة سوى 2.614 مليار دولار فقط بأسعار 1985 الثابتة. يتضح مما سبق أن نفقات الدفاع عبء كبير على الاقتصادات العربية سواء بتخصيص نسب متزايدة من الدخل القومي العربي لأغراض الدفاع أو بتحويل قسم كبير من هذا الدخل لشراء السلاح من الدول الأجنبية المصنعة، إضافة إلى تخصيص عدد كبير من قوة العمل للأعمال العسكرية وحرمان الإنتاج القومي منها؛ في حين يمثل الإنفاق الحربي الإسرائيلي، بنسبته العالية جداً من الدخل القومي، نوعاً من عسكرة الاقتصاد، فالأعمال الحربية الإسرائيلية تعتمد بدرجة كبيرة على الإنتاج المحلي في المركب الصناعي العسكري الإسرائيلي الذي يدير صناعة حربية متطورة مثل الصناعات الجوية الإسرائيلية والصناعات العسكرية الإسرائيلية إضافة إلى مؤسسة رافايل للأبحاث وتطوير الإنتاج الحربي. كما أن الصناعات الحربية الإسرائيلية تسهم إسهاماً كبيراً في توازن الميزان التجاري إذ تزيد الصادرات العسكرية على 25% من قيمة إجمالي الصادرات وتستوعب هذه الصناعات أكثر من 25% من قوة العمل إضافة إلى أنها عامل تحريض رئيسي للصناعات المدنية ويمكن القول إن التطور الصناعي الذي حدث في إسرائيل مدين برمته للإنتاج الحربي.
منقــول للأمــــــــــــــــــــــــــــانة
أنتظر ردوكـــــــــــــــــــــــــــــــم
ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام