السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الاكتناز
الاكتناز hoarding هو جمع المال وتكديسه والاحتفاظ بالمتراكم منه نقداً سائلاً مدة زمنية غالباً ما تكون طويلة، والكنز في اللغة هو المال المدفون. وبذلك يظل المال المكتنز مجمداً بعيداً عن التداول، ومن دون فائدة مباشرة أو نفع اقتصادي.
والاكتناز غير الادخار[ر]، وتختلف طبيعته عن طبيعة الادخار اختلافاً كبيراً، فالادخار هو عملية اقتصادية إيجابية ومفيدة لأنه المصدر الأولي للاستثمار[ر] الذي يتولد منه الدخل الجديد، والاكتناز ظاهرة عقيمة اقتصادياً وسلبية اجتماعياً. والادخار هو الأصل في مبدأ التدفق الاقتصادي economic flow concept لأن المال المدخر لا يخرج من حلقة التداول بل يصب في أقنية الاستثمار مما يؤدي إلى نماء في الدخل العام، فالاكتناز هو تجميد للمدخرات بأسلوب لا يعدو كونه تراكمات في المخزون، الأمر الذي يُبقي المال بعيداً عن حركة النمو. أما النظريات النقدية فإنها تعدُّ الاكتناز ذلك الجزء المتبقي من مجمل الادخار بعد عملية تحويل الادخارات إلى استثمارات.
وللاكتناز دوافع كثيرة ينطلق بعضها من رسوخ العادات الاجتماعية، ويتأصل بعضها الآخر في ذات المكتنز نفسه كصفات الشح والجشع وحب الاكتساب والاختزان. بيد أن للاكتناز دوافع أكثر موضوعية كدوافع الحيطة والاستقلال والأمان عند بعض الناس، ودوافع المضاربة والربح عند بعضهم الآخر.
وإذا ما استبعدت الدوافع الذاتية البحتة، لأن سلبيتها ناجمة غالباً عن مثالب اجتماعية أو نفسية ضيقة ومحصورة بفئة معينة من البشر ولا يمكن فهمها أو تحليلها بالعقلانية الاقتصادية، فإنه يلاحظ أن ثمة أسباباً معينة تدفع الأفراد والمؤسسات المالية وأحياناً الحكومات لممارسة الاكتناز في حدود ضيقة وفي أوقات معينة. وغالباً ما يكون ذلك التماساً للأمان والاستقلال أو بدافع الحيطة اتقاء للطوارئ أو لأزمات متوقعة أو ممكنة. وليس بأمر نادر الحدوث أو مستهجن اجتماعياً أن يُرى أفراد معينون يحتفظون بأموال نقدية سائلة ويحبسونها عن التداول والاستثمار مؤثرين جاهزية سيولتها على أرباح توظيفها وذلك لمواجهة نوائب الحياة أو مفاجآتها، بيد أنه يلاحظ أن هذه الفئة من الناس لا تستمر عادة بالاكتناز وحبس المال بعد نقطة معينة تؤلّف بنظرها حداً للأمان وضماناً لاستقلال اتخاذ قرار معين. كذلك فمن المألوف أن يؤثر بعض الأفراد والمؤسسات تجميد المال وحبسه سائلاً رغبة بالمضاربة أو بحافز ترقب ربح مستقبلي، فيكتنزون استعداداً لاقتناص الفرص الاستثمارية أو التجارية التي قد تبرز فجأة والتي يتطلب العمل فيها جاهزية في رأس المال، أو يكتنزون ترقباً لركود اقتصادي ممكن حين تهبط أسعار السلع والأصول المالية، الأمر الذي يرفع القيمةالشرائية للمال المكتنز. غير أنه إذا كان كل ذلك يقع في بوتقة الحالة الخاصة للاكتناز التي يمكن تحليلها اقتصادياً والتي لا تعدو كونها اكتنازاً مؤقتاً أو حالة توسع في اقتناء رأس المال الجاهز ترقباً لإنفاق مستقبلي، فإن الحالة العامة للاكتناز مجرداً تبقى ظاهرة سلبية لما عليها من مآخذ اقتصادية واجتماعية.
المنظور التاريخي وموقف الإسلام من الاكتناز
من الثابت أن الإنسان مارس الاكتناز منذ أقدم العصور. وقد كشفت التنقيبات عن الأوابد والدراسات الأنثروبولوجية قرائن يستدل منها على أن الاكتناز كان ممارساً في معظم الحضارات القديمة المعروفة، حتى إنه كان يدخل في طقوس ديانات بعض منها. وإنه لبدهي أن يلجأ الأفراد في المجتمعات البدائية إلى اكتناز المؤن والحاجات الضرورية وإخفائها من وجه الأعداء ومن قساوة الطبيعة ومخلوقاتها المتنوعة. وكان النشاط الاقتصادي في المشاعة البدائية نشاطاً استهلاكياً يعتمد على أعطيات بر الطبيعة وبحرها، ثم تطور إلى الإنتاج الرعوي وبدأت المدنيات العمرانية تتكّون نتيجة لما فرضته الزراعة من توضع واستقرار. وإذا كانت أداة التبادل ومعيار الثروة قد تمثّلا لدى شعوب الداخل في أزمنة معينة بحجوم المحصولات وبأعداد أليف الحيوان وبكميات الجلود والنتاج، فإن شعوب الساحل قد اعتمدت الأصداف والمرجان و اللآلئ والملح. ومع تطور أصول التبادل التجاري بين المجتمعات وتوسع الاستفادة من المعادن ظهرت خصائص الذهب والفضة ومحاسن استعمالهما فاكتسبا علة الثمنية، أي بدأت السلع والأرزاق تثمن بهما، وتقلصت ظاهرة المقايضة فأصبحا أساس النقد حتى إنه عند ظهور الإسلام ذكر الذهب والفضة من دون غيرهما مثالاً للاكتناز.
عالج الإسلام ظاهرة الاكتناز من ثلاث زوايا. فمن الناحية الأولى نهى عن الاكتناز وأنذر المكتنزين بعقاب أليم. فقد جاء في سورة التوبة: }والذينَ يكْنِزونَ الذَّهَبََ والفِضَّةَ، ولا يُنفِقُونَهَا في سَبيلِ الله، فَبشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيهَا في نَارِ جَهَنَّمَ، فَتُكْوَى بها جِبَاهُهُم وجُنُوبُهُم وظُهُورُهُم. هَذَا ماكَنَزتُمْ لأنفُسِكُم، فَذُوقُوا مَا كُنتُم تَكْنِزوُن{ (التوبة 34 و35). ومن الناحية الثانية حض الإسلام على إنفاق المال وبشر الذين ينفقونه من غير هدر وتبذير بالجنة التي أعدت للمتقين، وقد ورد في القرآن الكريم بضع عشرة آية حثت على الإنفاق المشروع للمال؛ منها ما جاء في سورة آل عمران: }لن تنَالُوا البرّ حَتّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبّونَ وما تُنفِقُوا مِن شَيءٍ فَإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ{(آل عمران 92). كذلك ما جاء في سورة البقرة }الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالهم بِالليْلِ والنَّهَار سِرّاً وعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِهمْ ولا خَوْفٌ عَلَيهِمْ ولا هُم يَحْزَنُونَ{ (البقرة 274). بيد أن الإسلام، الذي رغب عن الاكتناز وحض على الإنفاق، قد فرق بدقة بين الإنفاق المشروع على الأمور الاستهلاكية والإنتاجية وبين الإنفاق على البذخ وتبذير المال. فقد جاء في قوله تعالى: }وآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ والمِسكِينَ وابْنَ السَّبِيل ولاتُبَذّرْ تَبْذِيراً{ (الإسراء 26). أما الناحية الثالثة التي عالج الإسلام فيها مسألة الاكتناز فقد جاءت عن طريق أحكام أحد أركان الإسلام وهو الزكاة. وقد ورد ذكر الزكاة في اثنين وثلاثين موضعاً من القرآن الكريم، وهي تؤلف آلية تعمل تلقائياً على تقليص المال المكتنز وإذابته كلياً، إذ توجب على المكتنز دفع نصاب محدد سنوياً زكاة ماله [ر. الزكاة]، وتحفز صاحب المال على استغلاله لجعل أعماله رابحة وثروته نامية، هذا إضافة إلى أن أحكام الزكاة تخول أولياء الأمر إنفاق حصيلة الزكاة في أوجه مشروعة متعددة فتعاد هذه الأموال لتدخل أقنية العجلة الاقتصادية من جديد فينتفع من حركتها واستثمارها المجتمع كله.
الاكتناز وأثره السلبي في النشاط الاقتصادي ونمو بلدان العالم الثالث
يقسم الدخل وفق الاعتبارات الاقتصادية إلى قسمين، قسم ينفق على المتطلبات الاستهلاكية والآخر المتبقي يذهب إلى الادخار. وإذا ما افترض أن الدخل، ولاسيما في المدى القريب، يكون ثابتاً، فإن الفرد لا يستطيع أن يزيد ادخاره إلا عن طريق الإقلال من نفقاته الاستهلاكية. وبالمفهوم الاقتصادي لا يخرج المال المدخر من حلقة التداول، لأن ما يدخر في مدة قصيرة كشهر من الأشهر مثلاً يعاد ليوظف في الشهر التالي في نشاطات ذات فائدة أو ينفق على استثمارات منتجة. لذلك، فعند إجراء حساب الدخل العام، وفق شروط ومفهومات اقتصادية معينة، يُعدّ مجمل الادخار في عام من الأعوام مساوياً لمجمل الاستثمار. ولما كانت عملية توسيع المستوى العام للطاقةالإنتاجية القائمة في أي مجتمع لا تتم إلا بوساطة الفائض الإنتاجي المتاح للاستثمار، ولما كانت هناك علاقة ارتباط مباشرة بين تزايد الاستثمار وتزايد مجمل الدخل مما يبقي استمرار العلاقة قائماً نتيجة تفاعل الظاهرتين المعروفتين في علم الاقتصاد الحديث «بالمسرِّع» accelerator و«المضاعف» multiplier، وترابط قواهما مما يؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي العام؛ لما كان الأمر كذلك فإن الاكتناز بعدِّه تجميداً لقسم من الادخار هو في الواقع إنقاص لمجمل الاستثمار أي لجم حركة نماء الدخل العام وتعويق للنشاط الاقتصادي بوجه عام.
ومشكلة الاكتناز هي أكثر تعقيداً في البلدان النامية مما هي عليه في البلدان الصناعية التي هي أكثر تقدماً. فالاكتناز أكثر شيوعاً في المجتمعات المتخلفة، وإن واقع انتشاره هو بحد ذاته أمر عائق لعملية التنمية اللازمة لتطوير بلدان العالم الثالث والنهوض بها اقتصادياً واجتماعياً.
وأما ما يتصل بدور الاكتناز، فبادئ ذي بدء يجب ألاّ ينسى أنه لا يتجمع لدى الفرد الفقير عادةً فائض يفوق متطلباته الاستهلاكية؛ بل إنه غالباً ما يعيش بمستوى الكفاف، لذلك فقلما يدخر أو يكتنز. وهكذا هي الحال في كثير من بلدان العالم الثالث، فالدخل العام لهذه البلدان غالباً ما يكون منخفضاً إلى مستوى يصبح معه عاجزاً عن مواجهة مجمل الاستهلاك. ثم إنه في الحالات التي يزيد فيها دخل البلدان النامية على استهلاكها يلاحظ أن نسبة الاكتناز من هذا الفائض أعلى مما تكون عليه في البلدان المتقدمة. وقد يعود سبب ذلك إلى التخلف الثقافي وإلى المعطيات الاجتماعية السائدة في البلدان النامية عامة، كتأصل بعض العادات الخاصة ورسوخ القيم الموروثة. وعلى سبيل المثال، فإن تقاليد الزواج في بعض المجتمعات تفرض على المرء البدء بالاكتناز منذ أوائل حياته الإنتاجية استعداداً لدفع مهر الزوجة الذي لا يتداول معظمه إلا مرة واحدة وذلك عند شراء الحلي الثمينة للعروس، تلك الحلي التي غالباً ما تبقى مجمدة معها طوال حياتها أي مجرد تحويل عملية الاكتناز. ثم إن ظاهرة تزين النساء بقطع النقود الذهبية هي أكثر انتشاراً في البلدان النامية منها في المجتمعات الصناعية المتقدمة على الرغم من أن معدل الدخل ومستوى الثراء هو أعلى في الثانية منه في الأولى. وإن بعض التقديرات تشير إلى أن بعض الأفراد في الهند مثلاً يقتنون أكبر كتلة من الذهب المكتنز لدى الأفراد في العالم، في حين أن الاقتصاد الهندي يرزح تحت ضغوط اقتصادية مختلفة منها تلك الناجمة عن نقص في موجودات الدولة من القطع الأجنبي والذهب. وإضافة إلى الأوضاع الاجتماعية للدول النامية، فإن محدودية الأسواق المالية[ر] وضآلة فعالية أقنية الادخار والاستثمار وتجمّع القطاع المصرفي في المدن الكبرى وقلة انتشار فروعه خارجها، كل ذلك من بين الأسباب الكثيرة التي تدفع الأفراد في تلك البلدان إلى الاكتناز بدلاً من الادخار.
لذلك كله، فإن الاكتناز في البلدان النامية هو في الواقع من أسباب التخلف ونتائجه في آن واحد، وهذا يولد حلقة مفرغة ذات قوى معاكسة لحركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فمعطيات التخلف توسع ظاهرة الاكتناز، وتوسع الاكتناز يؤدي إلى تقليص في حجم الادخار الإيجابي، أي إلى تقليص في مجمل الاستثمار، الأمر الذي يحدّ من نماء الدخل العام ومن حركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لتطوير بلدان العالم الثالث.
منقــول للأمــــــــــــــــــــــــــــانة
أنتظر ردوكـــــــــــــــــــــــــــــــم
ســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام