حتى بالنسبة للذين يرفضون بعض جوانب ظاهرة العولمة فإن
واقعَ الحياةِ في عالمنا المعاصر يؤكد ان العلم بكل معانيه ليست له حدود. فإنفتاح
القنوات بين كل الجهات المتصلة بالعلم والبحث العلمي أصبح حقيقةً لا يمكن أن تنكر
وإذا كنا نتكلم عن العلم بمعنى العلوم التطبيقية فلا يكاد يوجد معارضٌ واحدٌ للقول
بعالمية المعرفة إزاء البحث العلمي في كل دوائر العلوم التطبيقية وفي مجالاتِ
تطبيقاتها (التكنولوجيا). وكان العاملُ الأكثر حسماً في الوصول بعالمية المعرفة في
مجالات البحث العلمي في العلوم التطبيقية لهذه الدرجة الرحبة تلك الصلة الوثيقة في
المجتمعات المتقدمة بين البحث العلمي والحياة بوجهٍ عامٍ والحياة الإقتصادية بوجهٍ
خاصٍ وهو ما جعل دائرة "البحث والتنمية" Research and Development تتسع حتى تصبح أوسع من دائرة البحث العلمي Scientific Research بمعناه
القديم والذي يكون فيه البحث العلمي منبتَ الصلةِ بشكلٍ ما بالتوظيفات الحياتية
للعلم وهي الغاية الرئيسية لما يعرف الآن بالبحث والتنمية (R & D) .
فنظراً لأن المجتمعات المتقدمة قد أخرجت (بدرجةٍ كبيرةٍ)
من الجدران المغلق للجامعات ومراكز البحث وجعلت العديد من مجالاته تدور وجوداً
وعدم اً مع التوظيف الحياتي/الإقتصادي/ الإجتماعي للعلم فقد أصبحت عالمية المعرفة
في دنيا العلوم التطبيقية هي الحقيقة الكبرى . وهكذا أصبحنا نجد أن ميزانيات البحث
العلمي المندرج تحت تسمية "Research and Development" (R & D) من جهة تفوق ميزانيات البحث العلمي المجرد بكثير ومن جهة ثانية فإنها
تنفق ليس عن طريق الدول وإنما المؤسسات الإقتصادية. وهكذا أصبح كل من يعمل في أي
مجالٍ من مجالاتِ الصناعة أو التجارة أو الخدمات يبحث عن احدث تكنولوجيا العصر
لتوظيفها في عملية تطوير وتوسيع أنشطته وتعظيم العوائد منها وهو ما يضاعف من إتساع
معنى "عالمية المعرفة".
ولعلي لا أكون مبالغاً إذ أقول أن النهضةَ اليابانية في
طورِها الذي أعقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية كانت من أكبر أصحاب
الفضل على مفهومِ عالميةِ المعرفة إذ سعت اليابان إلى العلم والتكنولوجيا في كل
موضع في الأرض لتحصل عليه وتهضمه وتوظفه بأشكالٍ مذهلةٍ – وهو ما كان عصب التقدمِ
الياباني في السنوات التي تلت 1945. وفي مجالِ العلوم الإجتماعية فإن الأمرَ يبدو
مختلفاً بعض الشيء إذ تدخل الإعتبارات الحضارية والثقافية في النظرة للعلوم
الإجتماعية – ورغم صحة ذلك بشكلٍ نسبي إلاَّ أن دوائراً جديدةً نمت داخل عوالم
العلوم الإجتماعية حققت ما حققته العلوم التطبيقية في عالمية المعرفة: فعلومُ
الإدارةِ الحديثةِ وعلوُم الموارد البشرية والتسويق والكثير من الأفكار الإقتصادية
تمكنت أن تعبر الحدود وتحقق لهذه الفروع من العلوم الإجتماعية قدراً هائلاً من
"عالمية المعرفة" نظراً لإتسامها بقدر كبير من عدم الصبغة الثقافية "Culture Free" ولعظيم مردوداتها الحياتية – ولا ينفي ذلك أن بعض فروع العلوم
الإجتماعية قد ظلت "بين بين" لشدة إتصالها بالأبعاد الثقافية والحضارية
وإن كان ذلك لا ينفي ان تغلغلاً غير يسير للبعد العالمي في هذه العلوم قد تحقق.
ومقاومة "عالمية المعرفة" قد تبدو للبعض لاسيما في الواقع العربي سمة
طبيعية من سمات المجتمعات القديمة – ولكن من الأرجح أنها ليست كذلك: فالصين مجتمع
قديم ولكن الواقع يؤكد أن الجاليات الصينية في جنوب شرق آسيا كانت هي طليعة
الطفرات التي قامت على قيم من أهمها عالمية المعرفة… واليابان مجتمع قديم ولكنه
المجتمع الرائد في عدد من قيم التقدم وفي مقدمتها عالمية المعرفة … وكذلك الهند
التي رغم كونها مجتمعاً قديماً وذاخراً بالمشكلات الإجتماعية فقد كانت المؤسسات
العلمية فيها نموذج نادراً للمؤسسات العلمية التي لم تتدهور في العالم الثالث
وكانت جسورُ البحوث العلمية والتكنولوجية ممتدة بينها وبين العالم وهو ما أدى إلى
الكثير من الإنجازات لعل أهمها الإنجاز الهندي في صناعة السلاح ثم التألق الهندي
الفذ في عالم الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات.
وتفسيري الخاص أن المجتمعات العربية بقت بعيدة إلى حد
بعيد عن مزايا عالمية المعرفة بسبب التدهور الكبير في مؤسساتها التعليمية ومراكز
البحث العلمي كنتيجة لخضوع هذه المؤسسات والمراكز للحياة السياسية في هذه
المجتمعات وهو ما جعل هذه المؤسسات والمراكز منبتة الصلة بحركة العلوم في العالم
كما است أصلت روح الإبداع منها وحولتها إلى كيانات راكدة تفرز تعليماً لا علاقة له
بالعصر والحياة ومنبت الصلة بحركة البحث العلمي في كل مجالات العلوم التطبيقية
والإجتماعية وكانت الترجمة النهائية لذلك هو الغياب العربي المطلق في دوائر
الإنجازات العلمية والبحوث المتألقة في كل مجالات العلوم التطبيقية ودوائر بحوث
العلوم الإجتماعية على السواء.... يتبع